باد ج-8/77


الخميس، 15 يوليو 2021

ج1- كتاب : البيان والتبيين المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ مع روابط باقي الاجزاء الخمسة

كتاب : البيان والتبيين

المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

1 2 3 4 5 .

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم وسلم عونك اللهم وتيسيرك
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر وقديما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا الى الله في السلامة منهما
وقد قال النمر بن تولب
( أعذني رب من حصر وعي ... ومن نفس أعالجها علاجا )
وقال الهذلي
( ولا حصر بخطبته ... اذا ما عزت الخطب )
وقال مكي بن سوادة
( حصر مسهب جري جبان ... خير عي الرجال عي سكوت )
وقال الاخر
( مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع )
ومما ذموا به العي قوله
( وما بي من عي ولا أنطق الخنا ... إذا جمع الأقوام في الخطب محفل )
وقال الراجز وهو يمتدح بدلوه
( علقت يا حارث عند الورد ... بجابىء لا رفل التردي )
( ولا عيي بابتناء المجد ... )
وهذا كقول بشار الاعمى
( وعي الفعال كعي المقال ... وفي الصمت عي كعي الكلم )
وهذا المذهب شبيه بما ذهب اليه شتيم بن خويلد في قوله

( ولا يشعبون الصدع بعد تفاقم ... وفي رفق أيديكم لذي الصدع شاعب )
وهذا كقول زبان بن سيار
( ولسنا كأقوام أجدوا رياسة ... يرى مالها أولا يحس فعالها )
( يريغون في الخصب الأمور ونفعهم ... قليل إذ الأموال طال هزالها )
( وقلنا بلا عي وسسنا بطاقة ... إذ النار نار الحرب طال اشتعالها )
لانهم يجعلون العجز والعي من الخرق كانا في الجوارح أو في الألسنة وقال ابن أحمر الباهلي
( لو كنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبر الأمر )
وقالوا في الصمت كقولهم في النطق قال أحيحة بن الجلاح
( والصمت أحسن بالفتى ... ما لم يكن عي يشينه )
( والقول ذو خطل اذا ... ما لم يكن لب يعينه )
وقال محرز بن علقمة
( لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلم وقليل عاب )
( صموتا في المجالس غير عي ... جديرا حين ينطق بالصواب )
وقال مكي بن سوادة
( تسلم بالسكوت من العيوب ... فكان السكت أجلب للعيوب )
( ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشد الخطيب )
وقال آخر
( جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت حريا بالبلاغة من كثب )
( أبوك معم في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في الخطب )
وقال حميد بن ثور الهلالي
( أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل )
( فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل )
سحبان مثل في البيان وباقل مثل في العي ولهما أخبار وقال آخر
( ماذا رزئنا منك أم الأسود ... من رحب الصدر وعقل متلد )
( وهي صناع باللسان واليد ... )
وقال اخر

( لو صحبت شهرين دأبا لم تمل ... وجعلت تكثر قول لا و بل )
( حبك للباطل قدما قد شغل ... كسبك عن عيالنا قلت أجل )
( تضجرا مني وعيا بالحيل ... )
قال وقيل لبزرجمهر بن البختكان الفارسي أي شيء أستر للعي قال عقل يجمله قالوا فان لم يكن له عقل قال فمال يستره قالوا فان لم يكن له مال قال فاخوان يعبرون عنه قالوا فان لم يكن له اخوان يعبرون عنه قال فيكون ذا صمت قالوا فان لم يكن ذا صمت قال فموت وحي خير له من ان يكون في دار الحياة
وسأل الله موسى ( ص ) حين بعثه الى فرعون بابلاغ رسالته والابانه عن حجته والافصاح عن أدلته فقال حين ذكر العقدة التي كانت في لسانه والحبسة التي كانت في بيانه ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) وأنبأنا الله تبارك وتعالى عن تعلق فرعون بكل سبب واستراحته الى كل شغب ونبهنا بذلك على مذهب كل جاحد معاند وعلى كل مختال مكايد حين خبرنا بقوله ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) وقال موسى عليه السلام ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارسله معي رداء يصدقني ) وقال ( ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ) رغبة منه في غاية الافصاح بالحجة والمبالغة في وضوح الدلالة لتكون الاعناق اليه أسرع وان كان قد يأتى من وراء الحاجة ويبلغ افهامهم على بعض المشقة ولله عز و جل ان يمتحن عباده بما يشاء من التخفيف والتثقيل ويبلو أخبارهم كيف أحب من المكروه والمحبوب ولكل زمان ضرب من المصلحة ونوع من المحنة وشكل من العبادة ومن الدليل على ان الله عز و جل حل تلك العقدة وأطلق ذلك التعقيد والحبسة قوله ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ) الى قوله ( قد أوتيت سؤالك يا موسى ) فلم تقع الاستجابة على شيء من دعائه دون شيء لعموم الخبر
وذكر الله تعالى جميل بلائه في تعليم البيان وعظيم نعمته في تقويم اللسان فقال ( الرحمن علم القران خلق الانسان علمه البيان ) وقال ( هذا بيان

للناس ) ومدح القرآن بالبيان والافصاح وبحسن التفصيل والايضاح وبجودة الافهام وحكمة الابلاغ وسماه فرقانا وقال ( عربي مبين ) وقال ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ) وقال ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقال ( وكل شيء فصلناه تفصيلا )
وذكر الله تعالى لنبيه حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر ومن بلاغة الالسنة واللدد عند الخصومة فقال ( اذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) وقال ( لتنذر به قوما لدا ) وقال ( ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) وقال ( أالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) ثم ذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الاسماع بحسن منطقهم فقال ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) ثم قال ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) مع قوله ( وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ) وقال الشاعر في قوم يحسنون في القول ويسيئون في العمل قال ابو حفص أنشدني الاصمعي للمكعبر الضبي
( كسالى اذا لاقيتهم غير منطق ... يلهى به المحروب وهو عناء )
وقيل لذوهمان ما تقول في خزاعة قال جوع وأحاديث وفي شبيه بهذا المعنى قال أفنون بن صريم التغلبي
( لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذي قيل ولقمان وذي جدن )
( لما وقوا بأخيهم من مهولة ... أخا السكون ولا حادوا عن السنن )
( أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن )
( أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف أذا ما ضن باللبن )
ورئمان أصله الرقة والرحمة والرؤم أرق من الرؤف فقال رئمان أنف كأنها تبر ولدها بأنفها وتمنعه اللبن
ولأن العرب تجعل الحديث والبسط والتأنيس والتلقي بالبشر من حقوق القرى ومن تمام الأكرام وقالوا تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة واطالة الحديث عند المؤاكلة وقال شاعرهم وهو حاتم الطائي
( سلي الجائع الغرثان يا أم منذر ... اذا ما أتاني بين ناري ومجزري )

( هل ابسط وجهي انه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري )
وقال الاخر
( إنك يا ابن جعفر خير فتى ... وخيرهم لطارق اذا أتى )
( ورب نضو طرق الحي سرى ... صادف زادا وحديثا ما اشتهى )
( إن الحديث جانب من القرى ... )
وقال الآخر
( لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع )
( أحدثه ان الحديث من القرى ... وتعلم نفسي انه سوف يهجع )
ولذلك قال عمرو بن الاهتم
( فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق )
وقال الاخر
( أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب )
( و ما الخصب للأضياف ان يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب )
ثم قال الله تبارك وتعالى في باب اخر من صفة قريش والعرب ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا ) وقال ( فاعتبروا يا أولي الالباب ) وقال ( أنظر كيف ضربوا لك الأمثال ) وقال ( وان كان مكرهم لتزول منه الجبال ) وعلى هذا المذهب قال ( وان يكادوا الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) وقد قال الشاعر
( يتقارضون اذا التقوا في موقف ... نظرا يزيل مواقع الأقدام )
وقال تبارك وتعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) لان مدار الامر على البيان والتبيين وعلى الافهام والتفهيم وكلما كان اللسان أبين كان أحمد كما انه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل إلا أن المفهم افضل من المتفهم وكذلك المعلم والمتعلم
هكذا ظاهر هذه القضية وجمهور هذه الحكومة إلا في الخاص الذي لا يذكر والقليل الذي لا يشهر
وضرب الله مثلا لعي اللسان ورداءة البيان حين شبه أهله بالنساء والولدان

وقال تعالى ( أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) ولذلك قال النمر بن تولب
( وكل خليل عليه الرعاث ... والحبلات ضعيف ملق )
وليس حفظك الله مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة وسقطات الخطل يوم اطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة وعن الحصر من فوت درك الحاجة والناس لا يعيرون الخرس ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحصر ويؤنيون العي فان تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء وتعاطيا مناظرة البلغاء تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب ومماتنة العي الحصر للبليغ المصقع في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق وأحدهما ألوم من صاحبة والالسنة اليه أسرع وليس اللجلاج والتمتام الالثغ والفأفاء وذو الحبسة والحكلة والرتة وذو اللفف والعجلة في سبيل الحصر في خطبته والعي في مناضلة خصومه كما ان سبيل المفحم عند الشعراء والبكىء عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار
ثم اعلم ابقاك الله ان صاحب التشديق والتقعير والتقعيب من الخطباء والبلغاء مع سماحة التكلف وشنعة التزيد أعذر من عي يتكلف الخطابة ومن حصر يتعرض لاهل الاعتياد والدربة ومدار اللائمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف وبيانا يمازحه التزيد الا ان تعاطي الحصر المنقوص مقام الدرب التام اقبح من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادق الاعرابي القح وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والالفاظ وفي التحبير والارتجال انه البحر الذي لا ينزح والغمر الذي لا يسبر أيسر من انتحال الحصر المنخوب أنه في مسلاخ التام الموفر والجامع المحكك وان كان رسول الله قد قال ( أياي والتشادق ) وقال ( أبغضكم الي الثرثارون المتفيهقون ) وقال ( من بدا جفا ) وعاب الفدادين والمتزيدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الاشداق ورحب الغلاصم وهدل الشفاه وأعلمنا ان ذلك في أهل الوبر أكثر وفي اهل المدر أقل فاذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري فما ظنك بالمولد القروي والمتكلف البلدي فالحصر المتكلف والعي المتزيد ألوم

من البليغ المتكلف لاكثر مما عنده وهو أعذر لان الشبهة الداخلة عليه اقوى فمن أسوأ حالا أبقاك الله ممن يكون ألوم من المتشدقين ومن الثرثارين المتفيهقين وممن ذكره النبي نصا وجعل النهي عن مذهبه مفسرا وذكر مقته له وبغضه اياه
ولما علم واصل بن عطاء انه ألثغ فاحش اللثغ وأن مخرج ذلك منه شنيع وأنه اذ كان داعية مقالة ورئيس نحلة وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لابد من مقارعة الابطال ومن الخطب الطوال وان البيان يحتاج الى تمييز وسياسة والى ترتيب ورياضة والى تمام الالة وإحكام الصنعة والى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف واقامة الوزن وان حاجة المنطق الى الطلاوة والحلاوة كحاجته الى الجلالة والفخامة وان ذلك من اكبر ما تستمال به القلوب وتنثني اليه الاعناق وتزين به المعاني
وعلم واصل انه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة كنحو ما أعطى الله نبيه موسى صلوات الله عليه من التوفيق والتسديد مع لباس التقوى وطابع النبوة ومع المحبة والاتساع في المعرفة ومع هدي النبيين وسمت المرسلين وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة ولذلك قال بعض شعراء النبي
( لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر )
ومع ما أعطى الله موسى عليه السلام من الحجة البالغة ومن العلامات الظاهرة والبرهانات الواضحة الى ان حل الله تلك العقدة ورفع تلك الحبسة وأسقط تلك المحنة ومن اجل الحاجة الى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقة فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلا ولظرافته معلما لما استجزنا الاقرار به والتأكيد له ولست اعني خطبه المحفوظة ورسائله المخلدة لان ذلك يحتمل الصنعة وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الاكفاء ومفاوضة الاخوان

واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء والغين أقلها قبحا وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم
وكانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين فاذا حمل على نفسه وقوم لسانه أخرج الراء وقد ذكر ذلك أبو الطروق الضبي فقال
( عليم بابدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يقلب الحق باطله )
وكان واصل بن عطاء قبيح اللثغة شنيعها وكان طويل العنق جدا وفيه قال بشار الاعمى
( مالي أشايع غزالا له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وان مثلا )
( عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... أتكفرون رجالا أكفروا رجلا )
فلما هجا واصلا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين وقال
( الارض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار )
وكان واصل بن عطاء غزالا وزعم ان جميع المسلمين كفروا بعد وفاة رسول الله فقيل له وعلي أيضا فأنشد
( وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذى لا تصحبينا )
قال واصل بن عطاء عند ذلك أما لهذا الملحد الاعمى المشنف المتكنى بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا ان الغيلة سجية من سجايا الغالية لبعثت اليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله ثم كان لا يتولى ذلك منه إلى عقيلي او سدوسي
قال اسمعيل بن محمد الانصاري وعبد الكريم بن روح الغفاري قال أبو حفص عمر بن أبي عثمان الشمري الا تريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا وأنتما للذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلف فيه لا تظنان به التكلف مع امتناعه من حرف كثير الدوران في الكلام ألا تريان انه حين لم يستطع ان يقول بشار وابن برد والمرعث جعل المشنف بدلا من المرعث والملحد بدلا من الكافر وقال إن الغيلة سجية من سجايا الغالية ولم يذكر المنصورية ولا المغيرية لمكان الراء وقال لبعثت اليه من يبعج بطنه ولم يقل لأرسلت اليه وقال على مضجعه ولم يقل على فراشه
وكان اذا أراد ان يذكر البر قال القمح والحنطة والحنطة لغة كوفية

والقمح لغة شامية هذا وهو يعلم أن لغة من قال بر أفصح من قال قمح او حنطة
قال المتنخل الهذلي
( لا در دري ان أطعمت نازلهم ... قرف الحني وعندي البر مكنون )
وقال أمية بن أبي الصلت في مديح عبد الله بن جدعان
( له داع بمكة مشمعل ... واخر فوق دارته ينادي )
( الى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد )
وقال بعض القرشيين يذكر قيس بن معد يكرب ومقدمه مكة في كلمة له
( قيس أبو الاشعث بطريق اليمن ... لا يسأل السائل عنه ابن من )
( أشبع آل الله من بر عدن ... )
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أترون اني لا اعرف رقيق العيش لباب البر بصغار المعزى وسمع الحسن رجلا يعيب الفالوذق فقال لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عاب هذا مسلم وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله من هذه البرة السمراء حتى فارق الدنيا
وأهل الامصار انما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر
حدثني أبو سعيد عبد الكريم بن روح قال قال أهل مكة لمحمد بن المناذر الشاعر ليست لكم معاشر اهل البصرة لغة فصيحة انما الفصاحة لنا أهل مكة فقال ابن المناذر أما ألفاظنا فأحكى الالفاظ للقران وأكثرها له موافقه فضعوا القران بعد هذا حيث شئتم أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام ونحن نقول قدر ونجمعها على قدور وقال الله عز و جل ( وجفان كالجواب وقدور راسيات ) وأنتم تسمون البيت اذا كان فوق البيت علية وتجمعون هذا الاسم على علالي ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف وقال الله تبارك وتعالى ( غرف من فوقها غرف مبنية ) وقال ( وهم في الغرفات امنون ) وأنتم تسمون الطلع الكافور والاغريض ونحن نسميه الطلع وقال الله عز و جل ( ونخل طلعها هضيم ) فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها الا هذا
الا ترى ان أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا

بألفاظ من ألفاظهم ولذلك يسمون البطيخ الخربز ويسمون السميط الروذق ويسمون المصوص المزوز ويسمون الشطرنج الاشترنج الى غير ذلك من الاسماء
وكذا أهل الكوفة فانهم يسمون المسحاة بال وبال بالفارسية ولو علق ذلك لغة اهل البصرة - اذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب - كان ذلك أشبه اذ كان اهل الكوفة قد نزلوا بأدنى بلاط النبط وأقصى بلاد العرب ويسمي أهل الكوفة الحوك باذروج والباذروج بالفارسية والحوك كلمة عربية
وأهل البصرة إذا التقت أربع طرق يسمونها مربعة ويسميها أهل الكوفة الجهار سو والجهار سو بالفارسية ويسمون السوق أو السويقة وازار والوازار بالفارسية ويسمون القثاء خيارا والخيار فارسية ويسمون المجذوم ويذي بالفارسية
وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى ان الله تبارك وتعالى لم يذكر في القران الجوع إلا في موضع العقاب او في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة وكذلك ذكر المطر لانك لا تجد القرآن يلفظ به الا في موضع الانتقام والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث ولفظ القرآن الذي عليه نزل انه اذا ذكر الابصار لم يقل الاسماع واذا ذكر سبع سموات لم يقل الارضين الا تراه لا يجمع الارض أرضين ولا السمع أسماعا والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الالفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعض القراء انه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج
والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا وتدع ما هو اظهر واكثر ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه وكذلك المثل السائر وقد يبلغ الفارس والجواد الغاية في الشهرة ولا يرزق ذلك الذكر والتنويه بعض من هو أولى بذلك منه ألا ترى ان العامة ابن القرية أشهر عندها في الخطابة من سحبان وائل وعبيد الله ابن الحر أذكر عندهم في الفروسية من زهير بن ذؤيب وكذلك مذهبهم في

عنترة بن شداد وعتيبة بن الحارث بن شهاب وهم يضربون المثل بعمرو بن معد يكرب ولا يعرفون بسطام بن قيس
وفي القران معان لا تكاد تفترق مثل الصلاة والزكاة والجوع والخوف والجنة والنار والرغبة والرهبة والمهاجرين والانصار والجن والانس
قال قطرب أنشدني ضرار بن عمرو قول الشاعر في واصل
( ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال للشعر )
( ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث اشفاقا من المطر )
قال وسألت عثمان البري كيف كان واصل يصنع في العدد وكيف كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ويوم الاربعاء وشهر رمضان وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الآخرة ورجب فقال مالي فيه قول الا ما قال صفوان
( ملقن ملهمم فيما يحاوله ... جم خواطره جواب آفاق )
وأنشدني ديسم قال أنشدني ابو محمد اليزيدي
( وخلة اللفظ في اليا آت إن فقدت ... كخلة اللفظ اللامات والألف )
( وخصلة الراء فيها غير خافية ... فاعرف مواقعها في القول والصحف )
يزعم ان هذه الحروف اكثر تردادا من غيرها والحاجة اليها أشد واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم فانك متى حصلت جميع حروفها وعددت كل شكل على حدة علمت ان هذه الحروف الحاجة اليها أشد

ذكر ما جاء في تلقيب واصل بالغزال ومن نفي ذلك عنه
قال ابو عثمان فمن ذلك ما أخبرنا به الاصمعي قال أنشدني المعتمر بن سليمان لاسحق بن سويد العدوي
( برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب )
( ومن قوم اذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب )
( ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب )
( رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غدا حسن الماب )
وفي ذلك قال بشار

( مالي أشايع غزالا له عنق ... كنقيق الدو إن ولى وإن مثلا )
ومن ذلك قول معدان السميطى
( يوم تشفى النفوس من يعصر اللؤم ... م ويثنى بسامة الرحال )
( وعدي وتيمها وثقيف ... وأمي وتغلب وهلال )
( لا حرور ولا النوائب تنجو ... لا ولا صحب واصل الغزال )
وكان بشار كثير المديح لواصل بن عطاء قبل ان يدين بالرجعة ويكفر جميع الامة وكان قد قال في تفضيله على خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة والفضل ابن عيسى يوم خطبوا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق
( أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... من خطبة بدهت من غير تقدير )
( وإن قولا يروق الخالدين معا ... لمسكت مخرس عن كل تجبير )
لأنه كان مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء كانت مع ذلك أطول من خطبهم وقال بشار
( تكلفوا القول والاقوام قد حفلوا ... وحبروا خطبا ناهيك من خطب )
( فقام مرتجلا تغلي بداهته ... كمرجل القين لما حف باللهب )
( وجانب الراء لم يشعر به أحد ... قبل التصفح والإغراق في الطلب )
وقال في كلمة له يعني تلك الخطبة
( فهذا بديه لا كتحبير قائل ... اذا ما أراد القول زوره شهرا )
فلما انقلب عليهم بشار ومقاتله لهم بادية هجوه ونفوه فما زال غائبا حتى مات عمرو بن عبيد وقال صفوان الانصاري
( متى كان غزال له يا ابن حوشب ... غلام كعمرو او كعيسى بن حاضر )
( أما كان عثمان الطويل بن خالد ... أو القرم حفص نهية للمخاطر )
( له خلف شعب الصين في كل ثغرة ... الى سوسها الاقصى وخلف البرابر )
( رجال دعاة لا يفل عزيمهم ... تهكم جبار ولا كيد ماكر )
( إذا قال مروا في الشتاء تطاوعوا ... وإن كان صيفا لم يخف شهر ناجر )
( بهجرة أوطان وبذل وكلفة ... وشدة أخطار وكد المسافر )
( فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم ... وأورى بفلج للمخاصم قاهر )
( وأوتاد أرض الله في كل بلدة ... وموضع فتياها وعلم التشاجر )

( وما كان سحبان يشق غبارهم ... ولا الشدق من حيي هلال بن عامر )
( ولا الناطق النخار والشيخ دغفل ... إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر )
( ولا القالة الأعلون رهط مكحل ... اذا نطقوا في الصلح بين العشائر )
( بجمع من الجفين راض وساخط ... وقد زحفت براؤهم للمحاضر )
( تلقب بالغزال واحد عصره ... فمن لليتامى والقبيل المكاثر )
( ومن لحرري وآخر رافض ... وآخر مرجي وآخر حائر )
( وأمر بمعروف وانكار منكر ... وتحصين دين الله من كل كافر )
( يصيبون فصل القول في كل منطق ... كما طبقت في العظم مدية جازر )
( تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم ... على عمة معروفة في المعاشر )
( وسيماهم معروفة في وجوههم ... وفي المشي حجاجا وفوق الاباعر )
( وفي ركعة تأتي على الليل كله ... وظاهر قول في مثال الضمائر )
( وفي قص هداب وإحفاء شارب
وكور على شيب يضيء لناظر )
( وعنفقه مصلومة ولنعله ... قبالان في ردن رحيب الخواطر )
( فتلك علامات تحيط بوصفهم ... وليس جهول القوم في جرم خابر )
وفي واصل يقول صفوان
( فما مس دينارا ولا صر درهما ... ولا عرف الثوب الذي هو قاطعة )
وفيه يقول اسباط بن واصل الشيباني
( وأشهد ان الله سماك واصلا ... وأنك ميمون النقيبة والشيم )
ولما قام بشار يعذر ابليس في ان النار خير من الارض وذكر واصلا بما ذكره قال صفوان
( زعمت بأن النار أكرم عنصرا ... وفي الارض تحيا بالحجارة والزند )
( ويخلق في أرحامها وأرومها ... أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد )
( وفي القعر من لج البحار منافع ... من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد )
( كذلك سر الارض في البحر كله ... وفي الغيضة الغناء والجبل الصلد )
( ولا بد من أرض لكل مطهر ... وكل سبوح في الغمائر من جد )
( كذاك وما ينساح في الارض ماشيا ... على بطنه مشي المجانب للقصد )
( ويسري على جلد يقيم حزوزه ... تعمج ماء السيل في صبب حرد )

( وفي قلل الاجبال خلف مقطم ... زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد )
( وفي الحرة الرجلاء تلقى معادنا ... لهن مغارات تبجس بالنقد )
( من الذهب الإبريز والفضة التي ... تروق وتصبي ذا القناعة والزهد )
( وكل فلز من نحاس وآنك ... ومن زئبق حي ونوشادر يسدي )
( وفيها زرانيخ ومكر ومرتك ... ومن مرقشيشا غير كاب ولا مكدي )
( وفيها ضروب القار والشب والنهى ... وأصناف كبريت مطاولة الوقد )
( ترى العرق منها في المقاطع لائحا ... كما قدت الحسناء حاشية البرد )
( ومن إثمد جون وكلس وفضة ... ومن توتياء في معادنه هندي )
( وفي كل أغوار البلاد معادن ... وفي ظاهر البيداء من مستوى نجد )
( وكل يواقيت الانام وحليها ... من الارض والاحجار فاخرة المجد )
( وفيها مقام الخل والركن والصفا ... ومستلم الحجاج من جنة الخلد )
( وفي صخرة الخضر التي عند حوتها ... وفي الحجر المهمى لموسىعلىعمد )
( وفي الصخرة الصماء تصدع آية ... لأم فصيل ذي رغاء وذي وجد )
( مفاخر للطين الذى كان أصلنا ... ونحن بنوه غير شك ولا جحد )
( فذلك تدبير ونفع وحكمة ... وأوضح برهان على الواحد الفرد )
( أتجعل عمرا والنطاسي واصلا ... كأتباع ديصان وهم قمش المد )
( وتفخر بالميلاد والعلج عاصم ... وتضحك من جيد الرئيس أبي جعد )
( وتحكي لدى الأقوام شنعة رأيه ... لتصرف أهواء النفوس الى الرد )
وسميته الغزال في الشعر مطنبا ومولاك عند الظلم قصته مردى
يقول ان مولاك ملاح لان الملاحين اذا تظلموا رفعوا المرادى
( فيا ابن حليف الطين واللؤم والعمى ... وأبعد خلق الله من طرق الرشد )
( أتهجوا أبا بكر وتخلع بعده ... عليا وتعزو كل ذاك الى برد )
( كأنك غضبان على الدين كله ... وطالب ذحل لا يبيت على حقد )
( رجعت الىالامصار من بعد واصل ... وكنت شريدا في التهائم والنجد )
( أتجعل ليلى الناعطية نحلة ... وكل عريق في التناسخ والرد )
( عليك بدعد والصدوف وفرتني ... وحاضنتي كسف وزاملتي هند )
( تواثب أقمارا وأنت مشوة ... وأقرب خلق الله من شبه القرد )

ولذلك قال فيه حماد عجرد بعد ذلك
( ويا أقبح من قرد ... اذا ما عمى القرد )
ويقال انه لم يجزع من شيء قط جزعه من هذا البيت وذكره الشاعر وذكر أخويه لامه فقال
( لقد ولدت أم الأكيمة أعرجا ... واخر مقطوع القفا ناقص العضد )
وكانوا ثلاثة مختلفي الاباء والأم واحدة وكلهم ولد زمنا ولذلك قال بعض من يهجوه
( اذا دعاه الخال أقعى ونكص ... وهجنة الإقراف فيه بالخصص )
وقال الشاعر
( لا تشهدن بخارجي مطرف ... حتى ترى من نجله أفراسا )
وقال صفوان الانصاري في بشار وأخويه وكان يخاطب أمهم
( ولدت خلدا وذيخا في تشتمه ... وبعده خزرا يشتد في العضد )
( ثلاثة من ثلاث فرقوا فرقا ... فاعرف بذلك عرق الخال من ولد )
وقال بعد ذلك سليمان الاعمى أخو مسلم بن الوليد الانصاري الشاعر في اعتذار بشار لابليس وهو يخبر عن كرم خصال الارض
( لابد للأرض ان طابت وان خبثت ... من ان تحيل اليها كل مغروس )
( وتربة الأرض ان جيدت وان قحطت ... فحملها أبدا في إثر منفوس )
( وبطنها بفلز الارض ذو خبر ... بكل جوهرة في الارض مرموس )
( وكل آنية عمت مرافقها ... وكل منتقد فيها وملبوس )
( وكل ماعونها كالملح مرفقة ... وكلها مضحك من قول ابليس )
وقال بعض خلفاء بغداد
( عجبت من ابليس في كبره ... وخبث ما أبداه من نيته )
( تاه على ادم في سجدة ... وصار قوادا لذريته )
وذكره بهذا المعنى سليمان أخو مسلم الانصاري فقال
( يأبى السجود له من فرط نخوته ... وقد تحول في مسلاخ قواد )
وقال صفوان في شأن واصل وبشار وفي شأن النار والطين في كلمة له
( وفي جوفها للعبد أستر منزل ... وفي ظهرها يقضي فرائضه العبد )

( تمج لفاظ الملح مجا وتصطفي ... سبائك لا تصدى وان قدم العهد )
( وليس بمحص كنه ما في بطونها ... حساب ولا خط و ان بلغ الجهد )
( فسائل بعبد الله في يوم حفله ... وذاك مقام لا يشاهده وغد )
( أقام شبيبا وابن صفوان قبله ... بقول خطيب لا يجانبه القصد )
( وقام ابن عيسى ثم قفاه واصل ... فأبدع قولا ما له في الورى ند )
( فما نقصته الراء اذ كان قادرا ... على تركها واللفظ مطرد سرد )
( ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له الشكد )
( فأقنع كل القوم شكر حبائهم ... وقلل ذاك الضعف في عينه الزهد ) وقد كتبنا احتجاج من زعم ان واصل بن عطاء كان غزالا واحتجاج من دفع ذلك عنه ويزعم هؤلاء أن قول الناس واصل الغزال كما يقال خالد الحذاء وكما يقولون هشام الدستواني وانما قيل ذلك لان الاباضية كانت تبعث اليه من صدقاتها بثياب دستوانية فكان يكسوها الاعراب الذين يكونون بالحباب فأجابوه الى وقول الاباضية وكانوا قبل ذلك لا يزوجون الهجناء فأجابوه الى التسوية وزوجوا هجينا فقال الهجين في ذلك
( إنا وجدنا دستوانينا ... الصائمين المتبعدينا )
( أفضل منكم حسبا ودينا ... أخزى الاله المتكبرينا )
( أفيكم من ينكح الهجينا ... )
وإنما قيل ذلك لواصل لكثرة جلوسه في سوق الغزالين الى أبي عبد الله مولى قطن الهلالي وكذلك كانت حال خالد الحذاء الفقيه وكما قالوا أبو مسعود البدري لانه كان نازلا على ذلك الماء وكما قالوا أبو مالك السدي لانه كان يبيع الخمر في سدة المسجد
وهذا الباب مستقصى في كتاب الاسماء والكنى وقد ذكرنا جملة منه في أنباء السرارى والمهيرات
قال أبو عثمان

ذكر الحروف التي تدخلها اللثغة وما يحضرني منها
وهي أربعة أحرف القاف والسين واللام والراء فأما التي هي على الشين المعجمة فذلك شيء لا يصورة الخط لانه ليس من الحروف المعروفة

وانما هو مخرج من المخارج والمخارج لا تحصى ولايوقف عليها وكذلك القول في حروف كثيرة من حروف لغات العجم وليس ذلك في شيء اكثر منها في لغة الخوز وفي سواحل البحر من أسياف فارس ناس كثير كلامهم شبيه بالصفير فمن يستطيع ان يصور كثيرا من حروف الزمزمة وهي الحروف التي تظهر من فم المجوسي اذا ترك الافصاح عن معانيه واخذ في باب الكناية وهو على الطعام
فاللثغة التي تعرض للسين تكون ثاء كقوله لابي يكسوم أبي يكثوم وكما يقولون بثرة اذا أرادوا بسرة وباثم الله إذا أرادوا بسم الله
والثانية اللثغة التي تعرض للقاف فان صاحبها يجعل القاف طاء فاذا اراد أن يقول قلت له قال طلت له وأراد أن يقول قال لي قال طال لي
وأما اللثغة التي تقع في اللام فان من أهلها من يجعل اللام ياء فيقول بدل قوله اعتللت اعتييت وبدل جمل جمي وآخرون يجعلون اللام كافا كالذي عرض لعمر أخى هلال فانه كان اذا اراد ان يقول ما العلة في هذا قال ما اكعكة في هذا
فاما اللثغة التي تقع في الراء فان عددها يضعف على عدد لثغة اللام لان الذي يعرض لها أربعة أحرف فمنهم من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمي فيجعل الراء ياء ومنهم من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمغ فيجعل الراء غينا ومنهم من اذا أراد ان يقول عمرو قال عمذ فيجعل الراء ذالا واذا أنشد قول الشاعر
( وأستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد )
قال
( واستبدت مذة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد )
فمن هؤلاء علي بن جنيد بن فريدى
ومنهم من يجعل الراء ظاء معجمة فيقول اذا أنشد هذا البيت
( واستبدت مرة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
قال
( واستبدت مظة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
ومنهم من يجعل الراء غينا معجمة فاذا اراد ان ينشد هذا البيت

( واستبدت مرة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
قال
( واستبدت مغة واحدة ... انما العاجز من لا يستبد )
كما أن الذي لثغته بالياء اذا اراد ان يقول واستبدت مرة واحدة قال واستبدت مية واحدى
وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء وسليمان بن يزيد العدوي الشاعر فليس الى تصويرها سبيل وكذلك اللثغة التي تعرض في الشين كنحو ما كان لمحمد بن الحجاج كاتب داود بن محمد كاتب أم جعفر فان تلك ايضا ليس لها صورة في الخط ترى بالعين وانما يصورها اللسان وتتأدى الى السمع وربما اجتمعت في الواحد لثغتان في حرفين كنحو لثغة شوشي صاحب عبد الله بن خالد الاموي فانه كان يجعل اللام ياء والراء ياء قال مرة موياي ويي ايي يريد مولاي ولي الري
واللثغة في الراء اذا كانت بالياء فهي أحقرهن وأوضعهن لذي المروءة ثم التي على الظاء ثم التي على الذال فأما التي على الغين فهي أيسرهن ويقال ان صاحبها لو جهد نفسه جهده وأخذ لسانه وتكلف مخرج الراء على حقها والافصاح بها لم يكن بعيدا من ان تجيبه الطبيعة ويؤثر فيها ذلك التعهد أثرا حسنا وقد كانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين وكان اذا شاء ان يقول عمر ولعمري وما أشبه ذلك على الصحة قاله ولكنه كان يستثقل التكلف والتهيؤ لذلك فقلت له اذا لم يكن المانع إلا هذا العذر فلست أشك أنك لو احتملت هذا التكلف والتتبع شهرا واحدا ان لسانك كان يستقيم
أما من يعتريه اللثغ في الضاد ربما اعتراه أيضا في الصاد والراء حتى اذا أراد ان يقول مضر قال مضى فهذا وأشباهه لاحقون بشوشي
وزعم ناس من العوام أن موسى صلوات الله وسلامه عليه كان ألثغ ولم يقفوا من الحروف التي كانت تعرض له في شيء بعينه فمنهم من جعل ذلك خلقة ومنهم من زعم أنه انما اعتراه حين قالت اسية بنت مراحم امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يفرق الجمر من التمر فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها الى فيه فاعتراه من ذلك ما اعتراه
وأما اللثغة في الراء فتكون في الياء والذال والغين وهي اقلها قبحا

وأوجدها في ذي الشرف وكبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم وكانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين فاذا حمل على نفسه وقوم لسانه اخرج الراء على الصحة فتأتى له ذلك وكان يدع ذلك استثقالا أنا سمعت ذلك منه قال وكان الواقدي يروي عن بعض رجاله ان لسان موسى عليه السلام كانت عليه شامة فيها شعرات وليس يدل القران على شيء مما قالوا لانه ليس في قوله ( واحلل عقدة من لساني ) دليل على شيء دون شيء
قال الاصمعي اذا تتعتع اللسان في التاء فهو تمتام واذا تتعتع في الفاء فهو فأفاء وانشد لرؤبة بن العاج
( ياحمد ذاك المنطق التمتام ... كأن وسواسك في اللمام )
( حديث شيطان بني همام ... )
وبعضهم ينشد يا حمد ذات المنطق النمنام وليس ذاك بشيء وانما ذلك كما قاله ابو الزحف
( لست بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في المنام )
وانشد أيضا للخولاني في كلمة له
( إن السياط تركن لاستك منطقا ... كمقالة التمتام ليس بمعرب )
فجعل الخولاني التمتام غير معرب عن معناه ولا مفصح بحاجته
وقال أبو عبيدة اذا أدخل الرجل بعض كلامه في بعض فهو ألف وقيل بلسانه لفف وأنشدني لابي الزحف الراجز
( كأن فيه لففا اذا نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق )
كأنه لما جلس وحده ولم يكن له من يسلمه وطال عليه ذلك أصابه لفف في لسانه وكان يزيد بن جابر قاضي الازارقة بعد المقعطل يقال له الصموت لانه لما طال صمته ثقل عليه الكلام فكان لسانه يلتوي ولا يكاد يبين وأخبرني محمد بن الجهم أن مثل هذا اعتراه أيام محاربة الزط من طول التفكر ولزوم الصمت قال وأنشدني الاصمعي
( حديث بني زط اذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج المتقارب )
قال ذلك حين كان في كلامهم عجلة وقال سلمة بن عياش
( كأن بني رالان اذا جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهن سويق )

فقال ذلك لرقة أصواتهم وعجلة كلامهم وقال اللهبي في اللجلاج
( ليس خطيب القوم باللجلاج ... ولا الذي يزحل كالهلباج )
( ورب بيداء وليل داج ... هتكته بالنص والإدلاج )
وقال محمد بن سلام الجمحي كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه اذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه قال خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد ويقال في لسانه حبسة اذا كان الكلام يثقل عليه ولم يبلغ حد الفأفاء والتمتام ويقال في لسانه لكنة اذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب وجذبت لسانه العادة الاولى الىالمخرج الاول فاذا قالوا في لسانه حكله فانما يذهبون الى نقصان الة المنطق وعجز أداة اللفظ حتى لا تعرف معانيه الا بالاستدلال وقال رؤية بن العجاج
( لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل )
وقال محمد بن ذؤيب في مديح عبد الملك بن صالح
( ويفهم قول الحكل لو أن ذرة ... تساود أخرى لم يفته سوادها )
وقال التيمي في هجائه لبني تغلب
( ولكن حكلا لا تبين ودينها ... عبادة أعلاج عليها البرانس )
قال سحيم بن حفص في الخطيب الذى تعرض له النحنحة والسعلة وذلك اذا انتفخ سحره وكبا زنده ونبا حده فقال
( نعوذ بالله من الإهمال ... ومن كلال الغرب في المقال )
( ومن خطيب دائم السعال ... )
وأنشدني الاعرابي
( إن زيادا ليس بالبكي ... ولا بهياب كثير العي )
وأنشدني بعض أصحابنا
( ناديت هيذان والابواب مغلقة ... ومثل هيذان سني فتحة الباب )
( كالهندواني لم يفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب )
وقال الآخر
( اذا الله سني عقد شيء تيسرا ... )
وقال بشر بن معمر في مثل ذلك

( ومن الكبائر مقول متتعتع ... جم التنحنح متعب ميهور )
وذلك أنه شهد ريسان أبا بجير بن ريسان يخطب وقد شهدت انا هذه الخطبة ولم أر جبانا قط أجرأ منه ولا جريئا قط أجبن منه
وقال الاشل الازرقي - من بعض اخوال عمران بن حطان الصفري القعدي - في زيد بن جندب الايادي خطيب الازارقة واجتمعا في بعض المحافل فقال بعد ذلك الاشل البكري
( نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل )
( ويل امه اذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل )
وقد ذكر الشاعر زيد بن جندب الايادي الخطيب الازرقي في مرثيته لابي داود بن جرير الايادي حيث ذكره بالخطابة وضرب المثل بخطباء إياد فقال
( كقس أياد أو لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب )
وزيد بن جندب هو الذي يقول في الاختلاف الذي وقع بين الازارقة
( قل للمحلين قدقرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء والهرب )
( كنا اناسا على دين ففرقنا ... فرع الكلام وخلط الجد باللعب )
( ما كان أغنى رجالا ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب )
( إني لأهونكم في الارض مضطربا ... مالي سوى فرسي والرمح من نشب )
وأما عذرة المذكور في البيت الاول فهو عذرة بن حجرة الخطيب الايادي ويدل على قدرة فيهم وعلى قدرة في اللسن والخطب قول شاعرهم
( وأي فتى صبر على الأين والظما ... اذا اعتصروا بلوح ماء فظاظها )
( إذا ضرجوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد شظاظها )
( فانك ضحاك الىكل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها )
( إذا شعب المولى مشاعب معشر ... فعذرة فيها اخذ بكظاظها )
فلم يضرب هذا الشاعر الايادي المثل لهذا الخطيب الايادي الا برجل من خطباء إياد وهو قس بن ساعدة ولم يضرب صاحب مرثية أبي داود بن جرير الايادي المثل الا بخطباء اياد فقط ولم يفتقر الى غيرهم حيث قال في عذرة بن حجرة
( كقس إياد او لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب )

واول هذه المرثية قوله
( نعى ابن جرير جاهل بمصابه ... فعم نزارا بالبكا والتحوب )
( نعاه لنا كالليث يحمي عرينه ... وكالبدر يغشى ضوؤه كل كوكب )
( وأصبر من عود وأهدى اذاسرى ... من النجم في داج من الليل غيهب )
( واضرب من حد السنان لسانه ... وأمضى من السيف الحسام المشطب )
( زعيم نزار كلها وخطيبها ... اذا قال طأطا رأسه كل مشغب )
( سليل قروم سادة ثم قالة ... يبزون يوم الجمع أهل المحصب )
( كقس إياد او لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب )
في كلمة له طويلة وإياهم غنى الشاعر بقوله
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء )
قال أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير ومولى بجيلة من سبى دابق وكان شاعرا راوية وطلابة للعلم علامة قال سمعت ابا دواد بن جرير يقول وقد جرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال تخليص المعاني رفق والاستعانة بالغريب عجز والتشادق من غير أهل البادية بغض والنظر في عيون الناس عي ومس اللحية هلك والخروج مما بني عليه اول الكلام اسهاب وسمعته يقول رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الاعراب وبهاؤها تخير اللفظ والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه وانشداني بيتا له في صفة خطباء اياد وهو قوله
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء )
فذكر المبسوط في موضعه والمحذوف في موضعه والموجز والكناية والوحي باللحظ ودلالة الاشارة وأنشدني له الثقة في كلمة له معروفة
( الجود أخشن مسا يا بني مطر ... من أن تبز كموه كف مستلب )
( ما أعلم الناس أن الجود مدفعة ... للذم لكنه يأتي على النشب )
قال ثم لم يحفل بها فادعاها مسلم بن الوليد الانصاري او ادعيت له وكان احد من يجيد قريض الشعر وتحبير الكلام
وفي الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث او وصف او احتج

بليغا مفوها بينا وربما كان خطيبا فقط وشاعرا فقط وبين اللسان فقط
ومن الشعراء الخطباء الأبيناء الحكماء قس ين ساعدة الأيادي والخطباء كثير والشعراء اكثر منهم ومن يجمع الخطابة والشعر قليل
ومنهم عمرو بن الاهتم المنقري وهو المكحل قالوا كأن شعره في مجالس الملوك حلل منشرة قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل للاوسية اي منظر احسن قالت قصور بيض في حدائق خضر فأنشد عند ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيت عدي بن زيد العبادي
( كدمى العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره مستنير )
قال فقال قسامة بن زهير كلام عمرو بن الاهتم انق وشعره احسن هذا وقسامة أحد أبيناء العرب
ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشعي واسمه خداش بن بشر بن لبيد
ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الاسدي وكنيته ابو المستهل
ومن الخطباء الشعراء الطرماح بن حكيم الطائي وكنيته ابو نفر
قال القاسم بن معن قال محمد بن سهل راوية الكميت أنشدت الكميت قول الطرماح
( اذا قبضت نفس الطرماح أخلقت ... عرى المجد واسترخى عنان القصائد )
فقال الكميت إي والله وعنان الخطابة والرواية
قال ابو عثمان الجاحظ ولم ير الناس اعجب حالا من الكميت والطرماح وكان الكميت عدنانيا عصبيا وكان الطرماح قحطانيا عصبيا وكان الكميت شيعيا من الغالية وكان الطرماح خارجيا من الصفرية وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة وكان الطرماح لأهل الشام وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال اليه ولم ير الناس مثلهما إلا ما ذكروا من حال عبد الله بن زيد الاباضي وهشام بن الحكم الرافضي فانهما صارا الى المشاركة بعد الخلطة والمصاحبة وقد كانت الحال بين خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة الحال التي تدعو الى المفارقة بعد المناقشة والمحاسدة للذي اجتمع فيهما من اتفاق الصناعة والقرابة والمجاورة فكان يقال لولا أنهما أحلم تميم لتباينا تباين

النمر والأسد وكذلك كانت حال هشام بن حكم الرافضي وعبد الله بن زيد الاباضي إلا انهما فضلا على سائر المتضادين بما صارا اليه من الشركة في جميع تجارتهما وذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية فلم يعارضه شبيب
وتدل كلمة خالد هذه على أنه يحسن ان يسب سب الاشراف
ومن الخطباء الشعراء عمران بن حطان وكنيته ابو شهاب احد بني عمرو بن شيبان اخوة سدوس
فمن بني عمرو بن شيبان مع قلتهم من العلماء والخطباء والشعراء
عمران بن حطان رئيس القعدة من الصفرية وصاحب فتياهم ومقرعهم عند اختلافهم
ومنهم دغفل بن حنظلة النسابة الخطيب العلامة
ومنهم القعقاع بن شور
وسنذكر شأنهم اذا انتهينا الى موضع ذكرهم ان شاء الله تعالى
ومن الخطباء الشعراء نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر صاحب خراسان وهو يعد في أصحاب الولايات وفي الحروب وفي التدبير وفي العقل وشدة الرأي
ومن الخطباء الشعراء زيد بن جندب الأيادي وقد ذكرنا شأنه
ومن الخطباء الشعراء عجلان بن سحبان الباهلي وسحبان هذا هو سحبان وائل وهو خطيب العرب
ومن الخطباء الشعراء العلماء وممن قد تنافر اليه الاشراف أعشى همدان
ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني وهو الذي أشار على عبد الملك بخلع أخيه عبد العزيز والبيعة للوليد بن عبد الملك في خطبته المشهورة وقصيدته المذكورة وهو الذي لما بلغ عبد الملك بن مروان قتل الحجاج له قال ولم قتله ويله هلا رعى قوله فيه
( وبعثت من ولد الاغر معتب ... صقر يلوذ حمامه بالعرفج )
( فاذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم ينضج )
( وهو الهزبر إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صياح الهجهج )

ومن خطباء الامصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى وهو بشار ابن برد وكنيته ابو معاذ كان من احد موالي بني عقيل فان كان مولى أم ظباء على ما يقول بنو سدوس وما ذكره حماد عجرد فهو من موالي بني سدوس ويقال انه من أهل خراسان نازلا في بني عقيل وله مديح كثير في فرسان أهل خراسان ورجالاتهم وهو الذي يقول
( من خراسان وبيتي في الذرى ... ولدى المسعاة فرعي قد سبق )
ويقول
( وإني لمن قوم خراسان دارهم ... كرام وفرعي فيهم ناضر بسق )
وكان شاعرا راجزا سجاعا خطيبا صاحب منثور ومزدوج وله رسائل معروفة وأنشد عقبة بن رؤبة عقبة بن سلم رجزا يمتدحه فيه وبشار حاضر فأظهر بشار استحسان الارجوزة فقال عقبة بن رؤبة هذا طراز يا أبا معاذ لا تحسنه فقال بشارألمثلي يقال هذا الكلام أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته التي أولها
( يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي )
وهي التي يقول فيها
( إسلم وحييت أبا الملد ... لله أيامك في معد )
وفيها يقول
( الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرد )
ويقول فيها
( وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة من جلدي )
( وما وراء رغبتي من زهدي ... )
أي لم أره زهدا فيه ولا رغبة ذهب الى قول الشاعر
( لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك لولا أن من طاح طائح )
( يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا تدفع الموت النفوس الشحائح )
والمطبوعات على الشعر من المولدين بشار العقيلي والسيد الحميري وأبو العتاهية وابن ابي عيينة وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل وسلما الخاسر وخلف بن خليفة وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء وبشار أطبعهم كلهم

ومن الخطباء الشعراء وممن يؤلف الجيد ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب ورواية كثيرة وحسن دل وإشارة عيسى بن يزيد بن دأب احد بني ليث بن بكر وكنيته ابو الوليد
ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتابي وكنيته ابو عمرو وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النمري ومسلم بن الوليد الانصاري وأشباههما وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة والعتابي من ولد عمرو بن كلثوم ولذلك قال
( إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما بنت الايام من خطري )
( أيام عمرو بن كلثوم يسوده ... حيا ربيعة والأفناء من مضر )
( أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطلها الرامي من الوتر )
ودل في هذه القصيدة على انه كان قصيرا قوله
( نهى ظراف الغواني عن مواصلتي ... ما يفجأ العين من شيبي ومن قصري )
ومن الخطباء الشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة والسير الحسان المولدة والاخبار المدونة سهل بن هرون بن راهيبوني الكاتب صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كتاب كليلة ودمنة وكتاب الأخوان وكتاب المسائل وكتاب المخزومي والهذلية وغير ذلك من الكتب
ومن الخطباء الشعراء على بن ابرهيم بن جبلة بن مخرمة ولا أعلمه يكنى الا أبا الحسن
وسنذكر كلام قس بن ساعدة وشأن لقيط بن معبد وهند بنت الخس وجمعة بنت حابس وخطباء إياد اذا صرنا الى ذكر خطباء القبائل ان شاء الله
ولإياد وتميم في الخطب خصلة ليست لأحد من العرب لأن رسول الله هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته وهو الذي

رواه لقريش والعرب وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه وهذا إسناد تعجز عنه الاماني وتنقطع دونه الامال وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس ين ساعدة لاحتجاجه للتوحيد ولاظهاره معنى الاخلاص وإيمانه بالبعث ولذلك كان خطيب العرب قاطبة
وكذلك ليس لأحد في ذلك مثل الذي لبني تميم لأن رسول الله لما سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر قال مانع لحوزته مطاع في أذينه فقال الزبرقان أما إنه قد علم أكثر مما قال لكنه حسدني شرفي فقال عمرو أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته إلا ضيق الصدر زمر المروءة لئيم الخال حديث الغنى فلما رأى انه خالف قوله الاخر قوله الاول ورأى الانكار في عين رسول الله قال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت وما كذبت في الاولى ولقد صدقت في الاخرة فقال النبي عند ذلك إن من البيان لسحرا
فهاتان الخصلتان خصت بهما إياد وتميم دون سائر القبائل
ودخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبى سفيان فأشار له الى الوساد فقال له اجلس فجلس على الارض فقال معاوية ما منعك يا احنف من الجلوس على الوساد فقال يا أمير المؤمنين إن فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقري ولده أن قال لا تغش السلطان حتى يملك ولا تقطعه حتى ينساك ولا تجلس له على فراش ولا وساد واجعل بينك وبينه مجلس رجل او رجلين فانه عسى ان يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتقام له فيكون قيامك زيادة له ونقصا عليك حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين لعله ان يأتي من هو أولى بذلك المجلس مني فقال معاوية لقد أوتيت تميم الحكمة مع رقة حواشي الكلام وأنشأ يقول
( ياأيها السائل عما مضى ... وعلم هذا الزمن العائب )
( ان كنت تبغي العلم أو أهله ... أو شاهدا يخبر عن غائب )
( فاعتبر الارض بسكانها ... واعتبر الصاحب بالصاحب )
وذهب الشاعر في مرثية أبي دؤاو في قوله
( وأصبر من عود وأهدى اذا سرى ... من النجم في داج من الليل غيهب )

هذا شبيه بقول جبار بن سليمان بن مالك بن حعفر بن كلاب حين وقف على قبر عامر بن الطفيل فقال كان والله لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ولا يهاب حتى يهاب السيل وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا
وكان زيد بن جندب أشغى أقلح ولولا ذلك لكان أخطب العرب قاطبة وقال عبيدة بن هلال اليشكري في هجائه له
( أشغى عفنباة وناب ذوعصل ... وقلح باد وسن قد نصل )
وقال عبيدة أيضا فيه
( ولفوك أشنع حين تنطق فاغرا ... من في قريح قد أصاب بريرا )
وقال الكميت
( تشبه بالهمام اثارها ... مشافر قرحا أكلن البريرا )
وقال أخو النمر بن تولب في شنعة أشداق الجمل
( كم ضربة لك تحكي فاقراسية ... من المصاعب في أشداقه شنع )
وفي الخطباء من كان أشغى ومن كان أروق ومن كان أشدق ومن كان أضجم ومن كان أفقم
القراسية بعير أضجم والضجم اعوجاج في الفم والفقم مثله والروق ركوب السن الشفة وفي كل ذلك روينا الشاهد والمثل
وروى الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير قال قدم علينا الاحنف الكوفة مع مصعب بن الزبير فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا وقد رأيتها فيه كان أصلع الرأس أحجن الانف أغضف الاذن متراكب الاسنان أشدق مائل الذقن ناتىء الوجنة باخق العين خفيف العارضين أحنف الرجلين ولكنه اذا تكلم جلى عن نفسه
ولو استطاع الهيثم ان يمنعه البيان أيضا لمنعه ولولا انه لم يجد بدا من ان يجعل له شيئا على حال لما أقر بأنه اذا تكلم جلى عن نفسه
وقولنا في كلمته هذه كقول هند بنت عتبة حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين إنا لنرجو ان يكون في معاوية خلف من يزيد فقالت هند ومثل معاوية لا يكون خلفا من أحد فوالله لو جمعت العرب من

أقطارها ثم رمى به فيها لخرج من أي أعراضها شاء ولكنا نقول المثل الاحنف يقال إلا انه اذا تكلم جلى عن نفسه
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول فيما يعتري اللسان من ضروب الآفات
قال ابن الاعرابي طلق أبو رمادة امرأته حين وجدها لثغاء وخاف ان تجيئه بولد ألثغ فقال
( لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشي والمصبغ )
وأنشد ابن الاعرابي كلمة جامعة لكثير من هذه المعاني وهو قول الشاعر
( أسكت ولا تنطق فأنت حبحاب ... كلك ذو عيب وأنت عياب )
( إن صدق القوم فأنت كذاب ... أو نطق القوم فأنت هياب )
( أو سكت القوم فأنت قبقاب ... أو أقدموا يوما فأنت وجاب )
وأنشدني
( ولست يزميجة في الفراش ... وجابة يحتمي أن يجيبا )
( ولا ذي قلازم عند الحياض ... اذا ما الشريب اراب الشريبا )
وأنشدني
( رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب )
( ورب عياب له منظر ... مشتمل الثوب على العيب )
وأنشد
( وأجرا من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب )
وقال سهل بن هرون لو عرف الزنجي فرط حاجته الى ثناياه في اقامة الحروف وتكميل جميل البيان لما نزع ثناياه
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سهيل بن عمرو الخطيب يا رسول الله إنزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا وانما قال ذلك لأن سهيلا كان أعلم من شفته السفلى
وقال خلاد بن يزيد الارقط خطب الجمحي خطبة نكاح أصاب فيها معانى الكلام وكان في كلامه صفير يخرج من موضع ثناياه المنزوعة فأجابه زيد بن على بن الحسين بكلام في جودة كلامه الا انه فضله بحسن المخرج والسلامة من الصفير فذكر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر سلامة لفظ زيد بسلامة

أسنانه فقال في كلمة له
( قلت قوادحها وتم عديدها ... فله بذاك مزية لا تنكر )
ويروى
( صحت مخارجها وتم حروفها ... )
وزعم يحيى بن نجيم بن معاوية بن زمعة احد رواة أهل البصرة قال قال يونس بن حبيب في تأويل قول الاحنف بن قيس
( أنا ابن الزافرية أرضعتني ... بثدي لا أجد ولا وخيم )
( أتمتني فلم تنقص عظامي ... ولا صوني اذا اصطك الخصوم )
قال انما عنى بقوله عظامي أسنانه التي في فمه وهي التي اذا تمت تمت الحروف وقال يونس وكيف يقول مثله أتمتني فلم تنقص عظامي وهو يريد بالعظام عظام اليدين والرجلين وهو أحنف من رجليه جميعا مع قول الحتات له والله لانك ضئيل وان أمك لورهاء وكان أعرف بمواقع العيوب وأبصر بدقيقها وجليلها وكيف يقول ذلك وهو نصب عيون الاعداء والشعراء والاكفاء وهو أنف مضر الذي تعطس عنه وأبين العرب والعجم قاطبة
قالوا ولم يتكلم معاوية على منبر جماعة مذ سقطت ثناياه في الطست
قال أبو الحسن وغيره لما شق على معاوية سقوط مقادم فمه قال له يزيد بن معن السلمي واية ما بلغ أحد سنك الا أبغض بعضه بعضا ففوك أهون علينا من سمعك وبصرك فطابت نفسه
وقال أبو الحسن المدايني لما شد عبد الملك اسنانه بالذهب قال لولا المنابر والنساء ما باليت متى سقطت
قال وسألت مباركا الزنجي الفاشكار ولا أعلم زنجيا بلغ في الفشكرة مبلغه فقلت له لم ينزع الزنجي ثناياه ولم يحدد ناس منهم أسنانهم فقال أما أصحاب التحديد فللقتال والنهش ولانهم يأكلون لحوم الناس ومتى حارب ملك ملكا فأخذه قتيلا أو اسيرا أكله وكذلك اذا حارب بعضهم بعضا أكل الغالب منهم المغلوب
وأما أصحاب القلع فانهم قالوا نظرنا الى مقادم أفواه الغنم فكر هنا ان تشبه مقادم أفواهنا مقادم أفواه الغنم فكم تظنهم حفظك الله فقدوا من المنافع العظام بفقد تلك الثنايا

وفي هذا كلام يقع في كتاب الحيوان وقال أبوالهندى في اللثغ
( سقيت أبا المطرح إذا تأنى ... وذو الرعثات منتصب يصيح )
( شرابا يهرب الذبان عنه ... ويلثغ حين يشربه الفصيح )
وقال محمد بن الرومي مولى أمير المؤمنين قد صحت التجربة وقامت العبرة على ان سقوط جميع الاسنان أصلح في الابانة عن الحروف منه اذا سقط اكثرها وخالف احد شطريها الشطر الاخر
وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس بعد ان سقط جميع اسنانهم وبعد ان بقي منها الثلث او الربع فممن سقط جميع اسنانه وكان معنى كلامه مفهوما الوليد بن هشام القحذمي صاحب الاخبار ومنهم ابو سفيان والعلاء بن لبيد التغلبي وكان ذا بيان ولسن وكان عبيد الله بن ابي غسان ظريفا يصرف لسانه كيف أحب وكان الالحاح على القيس قد برد اسنانه حتى كان لايرى احد منها شيئا الا ان تطلع في لحم اللثة وفي أصول منابت الاسنان وكان سفيان بن الابرد الكلي كثيرا ما يجمع بين القار والحار فتساقطت اسنانه جميعا وكان مع ذلك خطيبا بينا
وقال اهل التجربة اذا كان في اللحم الذي فيه مغارز الاسنان تشمير وقصر سمك ذهبت الحروف وفسد البيان واذا وجد اللسان من جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكه ولم يمر في هواء واسع المجال وكان لسانه يملأ جوبة فمه لم يضره سقوط اسنانه الا بالمقدار المغتفر والجزء المحتمل ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق فانه زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسانه الواحد منها اعرض كان أفصح وأبين وأحكى لم يلفن ولما يسمع كنحو الببغاء والغداف وغراب البين وما أشبه ذلك وكالذي يتهيأ من أفواه السنانير اذا تجاوبت من الحروف المقطعة المشاركة لمخارج حروف الناس فاما الغنم فليس يمكنها ان تقول الا ماء والميم والباء أول ما يتهيأ في افواه الاطفال كقولهم ماما وبابا لانهما خارجان من عمل اللسان وانهما يظهران بالتقاء الشفتين وليس شيء من الحروف أدخل في باب النقص والعجز من فم الاهتم من الفاء والسين اذا كانا في وسط الكلمة فاما الصاد فليس تخرج الا من الشدق الايمن الا ان يكون المتكلم أعسر يسرا مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان

يخرج الضاد من اي شدقيه شاء فأما الايمن والاعسر والاضبط فليس يمكنهم ذلك الا بالاستكراه الشديد وكذلك الانفاس مقسومة المنخرين فحالا يكون الاسترواح ودفع البخار من الجوف من الشق الايمن وحالا يكون من الشق الايسر ولا يجتمعان على ذلك في وقت الا ان يستكره ذلك مستكره او يتكلفه متكلف فاما اذا ترك أنفاسه على سجيتها لم يكن الا كما قالوا
وقالوا الدليل على ان من سقط جميع أسنانه ان عظم اللسان نافع له قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية حين أمره بهجاء الانصار فقال أر ادي انت الى الكفر بعد الايمان لا أهجو قوما نصروا رسول الله وآووه ولكني سأدلك على غلام في الحي كافر كان لسانه لسان ثور يعني الاخطل وجاء في الحديث ( أن الله تبارك وتعالى يبغض الرجل يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلى بلسانها ) قالوا ويدل على ذلك قول حسان بن ثابت حين قال له النبي ( مابقي من لسانك ) فاخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته ثم قال والله إني لو وضعته على صخر لفلقه او على شعر لحلقه وما يسرني به مقول من معد وأبوالسمط مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن ابي حفصة وأبوه وابنه في نسق واحد يقرعون باطراف ألسنتهم اطراف انفهم
وتقول الهند لولا ان الفيل مقلوب اللسان لكان أنطق من كل طائر يتهيأ في لسانه كثير من الحروف المقطعة المعروفة
وقد ضرب الذين يزعمون أن ذهاب جميع الاسنان أصلح في الابانة عن الحروف من ذهاب الشطر او الثلثين في ذلك مثلا فقالوا الحمام المقصوص جناحاه جميعا اجدر ان يطير من الذي يكون احدهما وافرا والاخر مقصوصا قالوا وعلة ذلك التعديل والاستواء واذا لم يكن كذلك ارتفع احد شقيه وانخفض الاخر فلم يجذف ولم يطر والقطا من الطير قد يتهيأ من أفواهها ان تقول قطا قطا وبذلك سميت ويتهيأ من أفواه الكلاب العينات والفا ات والواوات كنحو قولها وو وو وكنحو قولها عف عف قال الهيثم بن عدي قيل لصبي من أبوك قال وو وو لان أباه كان يسمى كلبا
ولكل لغة حروف تدور في أكثر كلامها كنحو استعمال الروم للسين

واستعمال الجرامقة للعين قال الاصمعي ليس للروم ضاد ولا للفرس ثاء ولا للسريان دال
ومن ألفاظ العرب ألفاظ تنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها الا ببعض استكراه فمن ذلك قول الشاعر
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
ولما رأى من لا علم له أن أحدا لا يستطيع ان ينشد هذين البيتين ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج وقيل لهم ان ذلك انما اعتراه اذ كان من أشعار الجن صدقوا بذلك
ومن ذلك قول ابن بشير في أحمد بن يوسف حين أستبطأه
( هل معين على البكا والعويل ... أم معز على المصاب الجليل )
( ميت مات وهو في ورق العيش ... مقيم به وظل ظليل )
( في عداد الموتى وفي غامر الدنيا ... أبو جعفر أخي وخليلي )
( لم يمت ميتة الوفاة ولكن ... مات من كل صالح وجميل )
( لا أذيل الآمال بعدك إني ... بعدها الآمال حق بخيل )
( كم لها موقفا بباب صديق ... رجعت من نداه بالتعطيل )
ثم قال
( لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عرف نفس زهول )
فتفقد النصف الاخير من هذا البيت فانك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض وأنشدني أبو العاصي قال أنشدني خلف الاحمر في هذا المعنى
( وبعض قريض القوم أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ )
وقال ابو العاصي أنشدني في ذلك ابو البيداء الرياحي
( وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل )
أما قول خلف وبعض قريض القوم أولاد علة فانه يقول اذ كان الشعر مستكرها وكانت الفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات واذا كانت الكلمة ليس موقعها الى جنب أختها مرضيا موافقا كان اللسان عند إنشاء ذلك الشعر مؤونة واجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا وسبك

سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يحري على الدهان
وأما قوله كبعر الكبش فانما ذهب إلى ان بعر الكبش يقع متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور وكذلك حروف الكلام وأجزاء الشعر من البيت تراها متفقة لمسا ولينة المعاطف سهلة وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده والاخرى تراها سهلة لينة ورطبة مؤاتية سلسة النظام خفيفة على اللسان حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد
قال سحيم بن حفص قالت بنت الحطيئة للحطيئة تركت قوما كراما ونزلت في بني كليب بعر الكبش فعابتهم بتفرق بيوتهم فقيل لهم فأنشدونا بعض ما لا تتنافر أجزاؤه ولا تتباين ألفاظه فقالوا قال الثقفي
( من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إن الذليل الذي ليست له عضد )
( تنبو يداه اذا ما قل ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد )
وأنشدوا
( رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية أرام الكناس رميم )
( رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم أن لا يزال يهيم )
( ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم )
وأنشدوا
( ولست بزميجة في الفراش ... وجابة يحتمي ان يجيبا )
( ولا ذي قلازم عند الحياض ... اذا ما الشريب أراب الشريبا )
قال نوفل بن سالم لرؤبة بن العجاج يا أبا الجحاف مت متى شئت قال وكيف ذلك قال رأيت عقبة بن رؤبة ينشد رجزا أعجبني قال إنه يقول لو كان لقوله قران وقال الشاعر
( مهاربة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الأسود )
وأنشد ابن الاعرابي
( وبات يدرس شعرا لا قران له ... قد كان ثقفه حولا فما زادا )
وقال بشار
( فهذا بديه لا كتحبير قائل ... اذا ما أراد القول زوره شهرا )

فهذا في افتراق الالفاظ فاما افتراق الحروف فان الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا تأخير والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا تأخير
وهذا باب كثير وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التي اليها يجري
وقد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية المعروفة ويكون لفظه متخيرا فاخرا ومعناه شريفا كريما ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي وكذلك اذا تكلم الخراساني على هذه الصفة فانك تعرف مع اعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه أنه خراساني وكذلك إن كان من كتاب الأهواز ومع هذا إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئا وكذلك تكون حكايته للخراساني والاهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك نعم حتى نجده كأنه اطبع منهم فأما اذا حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل اطرافه في كل فأفاء في الارض في لسان واحد كما أنك تجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينه وأعضائه لا تكاد تجد من ألف اعمى واحدا يجمع ذلك كله فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد
ولقد كان أبو دبوبة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكوخ بحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرك منها متحرك حتى كان ابو دبوبة يحركه وكأنه قد جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد وكذلك في نباح الكلاب ولذلك زعمت الاوائل ان الانسان انما قيل له العالم الصغير سليل العالم الكبير لانه يصور بيده كل صورة ويحكي بفمه كل حكاية ولانه يأكل النبات كما تأكل البهائم ويأكل الحيوان كما تأكل السباع وان فيه من أخلاق جميع اجناس الحيوان أشكالا وانما تهيأ وأمكن الحاكية بجميع مخارج الامم لما أعطى الله الانسان من الاستطاعة والتمكن وحين فضله على جميع الحيوان بالمنطق والعقل والاستطاعة فبطول استعمال التكلف ذلت لذلك جوارحه ومتى ترك شمائله

ولسانه على سجيتها كان مقصورا بعادة المنشأ على الشكل الذي لم يزل فيه
وهذه القضية مقصورة على هذه الجملة من مخارج الالفاظ وصور الحركات والسكون فاما حروف الكلام فان حكمها اذا تمكنت في الالسنة خلاف هذا الحكم ألا ترى ان السندي اذا جلب كبيرا فانه لا يستطيع الا أن يجعل الجيم زايا ولو أقام في عليا تميم وسفلى قيس وبين عجز هوازن خمسين عاما وكذلك النبطي القح خلاف المغلاق الذي نشأ في بلاد النبط لان النبطي القح يجعل الزاي سينا فاذا أراد ان يقول زورق قال سورق ويجعل العين همزة فاذا أراد ان يقول مشمعل قال مشمئل والنخاس يمتحن لسان الجارية اذا ظن أنها رومية وأهلها يزعمون أنها مولدة بان تقول ناعمة وتقول شمس ثلاث مرات متواليات
والذي يعتري اللسان مما يمنع من البيان أمور منها اللثغة التي تعتري الصبيان الى ان ينشأوا وهو خلاف ما يعتري الشيخ الهرم الماج المسترخي الحنك المرتفع اللثة وخلاف ما يعتري أصحاب اللكن من العجم ومن نشأ من العرف مع العجم
فمن اللكن ممن كان خطيبا أو شاعرا أو كاتبا داهيا زياد بن سلمى ابو امامة وهو زياد الاعجم قال ابو عبيدة كان ينشد قوله
( فتى زاده السلطان في الود رفعة ... إذا غير السلطان كل خليل )
قال كان يجعل السين شينا والطاء تاء فيقول
( فتى زاده الشلتان في الود رفعة ... )
ومنهم سحيم عبد بني الحسحاس قال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وانشده قصيدته التي أولها
( عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا )
لو كان شعرك كله مثل هذا لأجزتك
قال ما سعرت يريد ما شعرت فجعل الشين المعجمة سينا غير معجمة

ومنهم عبيد الله بن زياد والي العراق قال لهانيء بن قبيصة أهروري سائر اليوم يريد أحروري
ومنهم صهيب بن سنان النمري صاحب رسول الله كان يقول إنك لهائن يريد انك لخائن وصهيب بن سنان يرتضخ لكنه رومية وعبيد الله ابن زياد يرتضخ لكنة فارسية وقد اجتمعا على جعل الحاء هاء وازدا نقاذار لكنته نبطية وكان مثلهما في جعل الحاء هاء وبعضهم يروي أنه أملي على كاتب له فقال اكتب الهاصل ألف كر فكتبها الكاتب بالهاء كما لفظ بها فأعاد عليه كلام فأعاد عليه الكاتب فلما فطن لاجتماعهما على الجهل قال أنت لا تهسن ان تكتب وأنا لا أهسن ان أملى فاكتب الجاصل الف كر فكتبها بالجيم معجمة
ومنهم ابو مسلم صاحب الدعوة كان جيد الالفاظ جيد المعاني وكان اذا أراد ان يقول قلت له قال كلت له فشارك في تحويل القاف كافا عبيد الله بن زياد كذلك خبرنا ابو عبيدة وانما اتى عبيد الله بن زياد في ذلك انه نشأ في الأساورة عند شيرويه الاسواري زوج أمه مرجانة وقد كان في ال زياد غير واحد يسمى شيرويه قال وفي دار شيرويه عاد على بن ابي طالب كرم الله وجهه زيادا في علة كانت به
فهذا ما حضرنا من لكنة البلغاء والشعراء والرؤساء فاما لكنة العامة ومن لم يكن له حظ في المنطق فمثل قيل مولى زياد فانه مرة قال لزياد أهدوا الينا همار وهش يريد حمار وحش قال زياد وأي شيء تقول ويلك قال أهدو الينا أيرا يريد عيرا فقال زياد الاول أهون وقالت أم ولد لجرير بن الخطفى لبعض ولدها وقع الجردان في عجان أمكم أبدلت الذال دالا من الجرذان وضمت الجيم وجعلت العجين عجانا قال بعض الشعراء في أم ولد له يذكر لكنتها
( أكثر ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الانثى وتأنيث الذكر )
( والسوأة السواء في ذكر القمر ... )
لانها كانت اذا أرادت ان تقول القمر قالت الكمر وقال ابن عباد ركبت عجوز سندية جملا فلما مشى تحتها متخلعا كهيئة حركة الجماع فقالت

هذا الذمل يذكرنا بالسر تريد أنه يذكرها بالوطء فجعلت الشين سينا والجيم ذالا وهذا كثير
وباب اخر من اللكنة كما قيل للنبطي لم ابتعت هذه الأتان قال أركبها وتلد لي فقد جاء بالمعنى بعينه ولم يبدل الحروف بغيرها ولا زاد فيها ولا نقص ولكنه فتح المكسور حين قال تلد لي ولم يقل تلد لي والصقلي يجعل الذال المعجمة دالا في الحروف

باب البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعانى المعانى القائمة في صدور العباد المتصورة في أذهانهم المتخلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الانسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه الا بغيره - وانما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها واخبارهم عنها واستعمالهم اياها - وهذه الخصال هي التي تقر بها من الفهم وتجلبها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهرا والغائب شاهدا والبعيد قريبا وهي التي تخلص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مقيدا والمقيد مطلقا والمجهول معروفا والوحشي مألوفا والغفل موسوما والموسوم معلوما وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون اظهار المعنى وكلما كانت الدلالة أوضح وافصح وكانت الاشارة ابين وانور كان انفع وأنجع والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله تبارك وتعالى يمدحه يدعو اليه ويحث عليه وبذلك نطق القران وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت وأصناف الاعجام
والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان ومن اي جنس كان ذلك الدليل لان مدار الامر والغاية التي

اليها يجرى القائل والسامع انما هو الفهم والافهام فبأي شيء بلغت الافهام وأوضحت عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع
ثم اعلم حفظك الله ان حكم المعاني خلاف حكم الالفاظ لان المعاني مبسوطة الى غير غاية وممتدة الى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ ثم الاشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال وتسمى نصبة والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الاصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات
ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن اعيان المعاني في الجملة ثم عن حقائقها في التفسير وعن أجناسها واقدارها وعن خاصها وعامها وعن طبقاتها في السار والضار وعما يكون منها لغوا بهرجا وساقطا مطرحا
قال ابو عثمان وكان في الحق ان يكون هذا الباب في اول هذا الكتاب ولكنا أخرناه لبعض التدبير
وقالوا البيان بصر والعي عمى كما ان العلم بصر والجهل عمى والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل وقال سهل بن هرون العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم وقال صاحب المنطق حد الانسان ألحي الناطق المبين وقالوا حياة المروءة الصدق وحياة الروح العفاف وحياة الحلم العلم وحياة العلم البيان وقال يونس بن حبيب ليس لعي مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء ولوحك بيافوخه عنان السماء وقالوا شعر الرجل قطعة من كلامه وظنه قطعة من علمه واختياره قطعة من عقله وقال ابن التوام الروح عماد البدن والعلم عماد الروح والبيان عماد العلم
قد قلنا في الدلالة باللفظ فأما الاشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب اذاتباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف وقد يتهدد رافع السوط والسيف فيكون ذلك زاخرا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا
والاشارة واللفظ شريكان ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما اكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط

وبعد فهل تعدو الاشارة ان تكون ذات صورة معروفة وحلية موصوفة على اختلاف في طبقاتها ودلالتها وفي الاشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة في أمور يسرها الناس من بعض ويخفونها من الجليس وغير الجليس ولولا الاشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص ولجهلوا هذا الباب البتة ولولا ان تفسير هذه الكلمة يدخل في باب صناعة الكلام لفسرتها لكم وقد قال الشاعر في دلالات الاشارة
( أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم )
( فأيقنت ان الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم )
وقال الآخر
( وللقلب على القلب دليل حين يلقاه ... )
( وفي الناس من الناس مقاييس وأشباه ... )
( وفي العين غنى للمرء أن تنطق أفواه ... )
وقال الاخر
( ومعشر صيد ذوي تجلة ... ترى عليهم للندى أدلة )
وقال الآخر
( ترى عينها عيني فتعرف وحيها ... وتعرف عيني ما به الوحي يرجع )
وقال الاخر
( وعين الفتى تبدي الذي في ضميره ... وتعرف بالنجوى الحديث المغمسا )
وقال الآخر
( ألعين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبة او بغض اذا كانا )
( والعين تنطق والأفواه صامته ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا )
هذا ومبلغ الاشارة أبعد من مبلغ الصوت فهذا ايضا باب تتقدم فيه الاشارة الصوت والصوت هو الة اللفظ وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا الا بظهور الصوت ولا تكون الحروف كلاما الا بالتقطيع والتأليف وحسن الاشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان مع الذي يكون

مع الاشارة من الدل والشكل والتفتل والتثني واستدعاء الشهوة وغير ذلك من الامور
قد قلنا في الدلالة بالاشارة فأما الخط فما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه من فضيلة الخط والانعام بمنافع الكتاب قوله لنبيه ( إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم ) وأقسم به في كتابه المنزل على نبيه المرسل حيث قال ( ن والقلم وما يسطرون ) ولذلك قالوا القلم احد اللسانين كما قالوا قلة العيال احد اليسارين وقالوا القلم أبقى أثرا واللسان اكثر هذرا وقال عبد الرحمن بن كيسان استعمال القلم أجدر ان يحض الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام وقالوا اللسان مقصور على القريب الحاضر والقلم مطلق في الشاهد والغائب وهو للغابر الكائن مثله للقائم الراهن والكتاب يقرأ بكل مكان ويدرس في كل زمان واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوزه الى غيره
وأما القول في العقد وهو الحساب دون اللفظ والخط فالدليل على فضيلته وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز و جل ( فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) وقال جل وتقدس ( الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان ) وقال تبارك وتعالى ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) وقال تبارك وتعالى ( وجعلنا الليل والنهار ايتين فمحونا اية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) والحساب يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عز و جل ذكره معنى الحساب في الاخرة
وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعقد فساد جل النعم وفقدان جمهور المنافع واختلال كل ما جعله الله عز و جل لنا قواما ومصلحة ونظاما
واما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد وذلك ظاهر في خلق السموات والارض وفي كل صامت وناطق وجامد ونام ومقيم وظاعن وزائد وناقص فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في

الحيوان الناطق فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان ولذلك قال الاول سل الارض فقل من أجرى أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فان لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا وقال بعض الخطباء أشهد ان السموات والارض آيات دالات وشواهد قائمات كل يؤدي عنك الحجة ويعرب عنك بالربوبية موسومة باثار قدرتك ومعالم تدبيرك التي تجليت بها لخلقك فأوصلت الى القلوب من معرفتك ما انسها من وحشة الفكر ورجم الظنون فهي على اعترافها لك وذلها اليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الاوهام وان حظ المفكر فيك الاعتراف لك وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت الاسكندر كان أمس انطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه امس ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وان كان صامتا وأشار اليه وان كان ساكتا
وهذاالقول شائع في جميع اللغات ومتفق عليه مع افراط الاختلافات وأنشد ابو الرديني العكلي في تنسم الذئب للريح واستنشاقه واسترواحه
( يستخبر الريح اذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع )
وقال عنبرة بن شداد العبسي وجعل نعيب الغراب خبرا للزاجر
( حرق الجناح كأن لحبي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع )
وقال الراعي
( ان السماء وان الريح شاهدة ... والارض تشهد والأيام والبلد )
( لقد جزيت بني بدر ببغيهم ... يوم الهباءة يوما ما له قود )
وقال نصيب في هذا المعنى يمدح سليمان بن عبد الملك
( أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب )
( قفوا خبرونا عن سليمان إنني ... لمعروفه من آل ودان طالب )
( فعاجوا فأثنوا بالذي انت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب )
وهذا كثير جدا

بسم الله الرحمن الرحيم
قال علي بن أبى طالب كرم الله وجهه قيمة كل انسان ما يحسن
فلو لم نقف من هذا الكتاب الا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية

ومجزية مغنية بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية
وأحسن الكلام ما كان قليلة يغنيك عن كثيرة ومعناه في ظاهر لفظه وكان الله عز و جل قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله فاذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا وكان صحيح الطبع بعيدا من الاستكراه ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة ونفذت من قائلها على هذه الصفة اصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة
وقد قال عامر بن عبد القيس الكلمة اذا خرجت من القلب وقعت في القلب واذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان
قال الحسن رضي الله تعالى عنه وسمع متكلما يعظ فلم تقع موعظته بموضع من قلبه ولم يرق عندها يا هذا ان بقلبك لشرا او بقلبي وقال علي بن الحسين ابن علي رضي الله عنهم لوكان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة الى كل حال سوى حالهم وعلى ان درك ذلك كان يعدمهم في الايام القليلة العدة والفكرة القصيرة المدة ولكنهم من بين مغمور بالجهل ومفتون بالعجب ومعدول بالهوى عن باب التثبت ومصروف بسوء العادة عن تفضيل التعلم وقد جمع محمد بن على بن الحسين صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين فقال صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير ولا حظا في الصلاح لان الانسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه
وذكر هذه الثلاثة الاخبار ابراهيم بن داحة عن محمد بن عمير وذكرها صالح بن علي الافقم عن محمد بن عمير وهؤلاء جميعا من مشايخ الشيع وكان ابن عمير أغلاهم
وأخبرني ابراهيم بن السندى عن علي بن صالح الحاجب عن العباس بن محمد قال قيل لعبد الله بن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول

ولسان سؤول وقد رووا هذا الكلام عن دغفل بن حنظلة العلامة وعبد الله أولى به منه والدليل على ذلك قول الحسن ان اول من عرف بالبصرة ابن عباس صعد المنبر فقرأ سورة البقرة ففسرها حرفا حرفا وكان مثجا يسيل غربا
أخبرنا هشام بن حسان وغيره قال قيل للحسن يا أبا سعيدان قوما زعموا انك تذم ابن عباس قالوا فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال ان ابن عباس كان من الاسلام بمكان وان ابن عباس كان من العلم بمكان وكان والله له لسان سؤول وقلب عقول وكان والله مثجا يسيل غربا
قالوا وقال علي بن عبد الله بن عباس من لم يجد مس نقص الجهل في عقله وذل المعصية في قلبه ولم يستبن موضع الخلة في لسانه عند كلال حده عن حد خصمه فليس ممن يفزع عن ريبة ولا يرغب عن حال معجزة ولا يكترث لفصل ما بين حجة وشبهة قالوا وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بلاغة بعض أهله فقال اني لأكره ان يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار علمه كما أكره ان يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله
وهذا كلام شريف نافع فاحفظوا لفظه وتدبروا معناه
ثم اعلموا ان المعنى الحقير الفاسد والدنيء الساقط يعشش في القلب ثم يبيض ثم يفرخ فاذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه استفحل الفساد وبزل وتمكن الجهل وفرخ فعند ذلك يقوى داؤه ويمتنع دواؤه اللفظ الهجين الردي والمستكره الغبي أعلق باللسان وآلف للسمع وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف والمعنى الرفيع الكريم ولو جالست الجهال والنوكى والسخفاء والحمقى شهرا فقط لم تنق من أوضار كلامهم وخبال معانيهم بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا لان الفساد أسرع الى الناس وأشد التحاما بالطبائع والانسان بالتعلم والتكلف وبطول الاختلاف الى العلماء ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه وهو لا يحتاج في الجهل الى اكثر من ترك التعلم وفي فساد البيان الى اكثر من ترك التخير
ومما يؤكد قول محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قول بعض الحكماء حين قيل له متى يكون الادب شرا من عدمه قال اذا كثر الادب ونقصت

القريحة وقد قال بعض الأولين من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه وهذا كله قريب بعضه من بعض
وذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال كان والله أفضل من ان يخدع وأعقل من ان يخدع وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس كفاك من علم الدين ان تعلم ما لا يسع جهله وكفاك من علم الادب ان تروي الشاهد والمثل وكان عبد الرحمن بن اسحق القاضي يروي عن جده ابراهيم بن سلمة قال سمعت أبا مسلم يقول سمعت الامام ابراهيم بن محمد يقول يكفي من حظ البلاغة ان لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع
قال ابو عثمان واما انا فأستحسن هذا القول جدا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله وصلى الله على سيدنا محمد خاصة وعلى الانبياء عامة
أخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان وحدثني محمد بن أبان - ولا أدري كاتب من كان - قالا قيل للفارسي ما البلاغة قال معرفة الفصل من الوصل وقيل لليوناني ما البلاغة قال تصحيح الاقسام واختيار الكلام وقيل للرومي ما البلاغة قال حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الاطالة وقيل للهندي ما البلاغة قال وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الاشارة وقال بعض اهل الهند جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ثم قال ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ان تدع الافصاح بها الى الكناية عنها اذ كان الافصاح أوعر طريقة وربما كان الاضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك وأحق بالنظر
وقال مرة جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول وقلة الحرف بما التبس من المعاني او غمض وبماشرد عليك من اللفظ او تعذر ثم قال وزين ذلك كله وبهاؤه وحلاوته وسناؤه ان تكون الشمائل موزونة والالفاظ معدلة واللهجة نقية فان جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت فقد ثم كل التمام وكمل كل الكمال

وخالف عليه سهل بن هرون وكان سهل في نفسه عتيق الوجه حسن الاشارة بعيدا من الفدامة معتدل القامة مقبول الصورة يقضى له بالحكمة قبل الخبرة وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشف فلم يمنعه ذلك ان يقول ما هو الحق عنده وان أدخل ذلك على حاله النقص قال سهل بن هرون لو ان رجلين خطبا او تحدثا او احتجا او وصفا وكان احدهما جميلا جليلا بهيا جسيما نبيلا وذا حسب شريفا وكان الاخر قليلا قميئا وباذ الهيئة دميما وخامل الذكر مجهولا ثم كان كلاهما في مقدار واحد من البلاغة وفي وزن واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم تقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبة ولصار التعجب منه سببا للعجب به ولكان الاكثار في شأنه علة للاكثار في مدحه لان النفوس كانت له أحقر ومن بيانه أيأس ومن حسده أبعد فاذا هجموا منه على ما لم يحتسبوه وظهر منه خلاف ما قدروه تضاعف حسن كلامه في صدورهم وكبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه أغرب وكلما كان أغرب كان ابعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم كان اظرف وكلما كان اظرف كان أعجب وكلما كان اعجب كان ابدع وانما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين فان ضحك السامعين من ذلك أشد وتعجبهم به اكثر والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن المقيم وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وكل ما كان في ملك غيرهم وعلى ذلك زهد الجيران في عالمهم الاصحاب في الفائدة من صاحبهم وعلى هذه السبيل يستطرفون القادم عليهم ويرحلون الىالنازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعا واكثر في وجوه العلم تصرفا وأخف مؤونة واكثر فائدة
ولذلك قدم بعض الناس الخارجي على العريق والطارف على التليد وكانوا يقولون اذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين إما رجلا يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل والاكبار والتبجيل على قدر حالهما في نفسه وموقعهما من قلبه وإما رجلا تعرض له

التهمة لنفسه فيهما والخوف من ان يعطى تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما وبلاغة كلامهما ما ليس عندهما حتى يفرط في الاشفاق ويسرف في التهمة فالأول يزيد في حقه للذي له في نفسه والاخر ينقصه من حقه لتهمته ولإشفاقه من ان يكون مخدوعا في أمره فاذا كان الحب يعمي عن المساوىء فالبغض يعمي عن الحقائق والمحاسن وليس يعرف حقائق مقادير المعاني ومحصول حدود لطائف الامور الا عالم حكيم او معتدل الاخلاط عليم والا القوى المنة لوثيق العقدة والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الاعظم والسواد الاكثر
وكان سهل بن هرون شديد الاطناب في وصف المأمون في البلاغة والجهارة وبالحلاوة والفخامة وجودة اللهجة والطلاوة
واذا صرنا الى ذكر ما يحضرنا من تسمية خطباء بني هاشم وبلغاء رجال القبائل قلنا في وصفهما على حسب حالهما والفرق الذي بينهما ولاننا عسى ان نذكر حملة اسماء خطباء الجاهليين والاسلاميين والبدويين والحضريين وبعض ما يحضرنا من صفاتهم وأقدارهم ومقاماتهم وبالله التوفيق
ثم رجع بنا القول الى ذكر الاشارة وروى ابو شمر عن معمر أبي الاشعث خلاف القول الاول في الاشارة والحركة عند الخطبة وعند منازعة الرجال ومناقلة الاكفاء
وكان ابوشمر اذا نازع لم يحرك يديه ولا منكبيه ولم يقلب عينيه ولم يحرك رأسه حتى كأن كلامه انما يخرج من صدع صخرة وكان يقضي على صاحب الاشارة بالافتقار الى ذلك وبالعجز عن بلوغ ارادته وكان يقول ليس من المنطق ان تستعين عليه بغيره حتى كلمة ابرهيم بن سيار النظام عند ايوب بن جعفر فاضطره بالحجة وبالزيادة في المسألة حتى حرك يديه وحل حبوته وحبا اليه حتى أخذ بيديه ففي ذلك اليوم انتقل ايوب من قول ابي شمر الى قوم ابرهيم
وكان الذي غر أبا شمر وموه له هذا الرأي ان اصحابه كانوا يستمعون منه ويسلمون له ويميلون اليه ويقبلون كل ما يورده عليهم ويثبته عندهمم فلما طال عليه توقيرهم له وترك مجاذبتهم إياه وخفت مؤونة الكلام عليه نسي حال منازعة الاكفاء ومجاذبة الخصوم وكان شيخا وقورا وزميتا ركينا وكان

ذا تصرف في العلم ومذكورا بالفهم والحلم
قال معمر ابو الاشعث قلت لبهلة الهندي - ايام اجتلب يحيى بن خالد اطباء الهند مثل منكة وبازيكر وقلبرقل وسندباذ وفلان وفلان - ما البلاغة عند اهل الهند قال بهلة عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها قال ابو الاشعث فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فاذا فيها
اول البلاغة اجتماع الة البلاغة وذلك ان يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح قليل اللحظ متخير اللفظ لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة ولا يدقق المعاني كل التدقيق ولا ينقح الالفاظ كل التنقيح ولا يصفيها كل التصفية ولا يهذبها غاية التهذيب ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكميا او فيلسوفا عليما ومن قد تعود حذف فضول الكلام واسقاط مشتركات الالفاظ قد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفح وعلى جهة الاستطراف والتظرف
وقال من علم حق المعنى ان يكون الاسم له طبقا وتلك الحال له وفقا ويكون الاسم له لا فاضلا ولا مفضولا ولا مقصرا ولا مشتركا ولا مضمنا ويكون مع ذلك ذاكرا لما عقد عليه اول كلامه ويكون تصفحه لمصادره في وزن تصفحه لموارده ويكون لفظه مؤنقا ولهول تلك المقامات معاودا ومدار الامر على إفهام كل قوم بقدر طاقتهم والحمل عليهم على اقدار منازلهم وان تواتيه الته وتتصرف معه أداته ويكون في التهمة لنفسه معتدلا وفي حسن الظن بها مقتصدا فانه ان تجاوز مقدارالحق في التهمة لنفسه ظلمها فأودعها ذلة المظلومين وان تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها أمنها فأودعها تهاون الآمنين ولكل ذلك مقدار من الشغل ولكل شغل مقدار من الوهن ولكل وهن مقدار من الجهل
وقال ابراهيم بن هانيء - وكان ماجنا خليعا كثير العبث متمردا - ولولا ان كلامه هذا الذي أراد به الهزل يدخل في باب الجد لما جعلته صلة الكلام

الماضي وليس في الارض لفظ يسقط البتة ولا معنى يبور حتى لا يصلح لمكان من الاماكن قال ابرهيم بن هانيء من تمام الة القصص ان يكون القاص اعمى ويكون شيخا بعيد مدى الصوت ومن تمام الة الزمر ان تكون الزامرة سوداء ومن تمام آلة المغني ان يكون فاره البرذون براق الثنايا عظيم الكبر سيء الحلق ومن تمام الة الخمار ان يكون ذميا ويكون اسمه أذين او مازيار او ازدانقاذار او ميشا او شلوما ويكون أرقط الثياب مختوم العنق ومن تمام الة الشعر ان يكون الشاعر اعرابيا ويكون الداعي الى الله صوفيا ومن تمام الة السؤدد ان يكون السيد ثقيل السمع عظيم الرأس
ولذلك قال ابن سنان الجديدي لراشد بن سلمة الهذلي ما أنت بعظيم الرأس ولا ثقيل السمع فتكون سيدا ولا بأرسح فتكون فارسا وقال شبيب بن شيبة الخطيب لبعض فتيان بني منقر والله مامطلت مطل الفرسان ولا فتقت فتق السادة
قال الشاعر
( تقلب رأسا لم يكن رأس سيد ... وكفا ككف الضب او هي احقر )
فعاب صغر رأسه وصغر كفه كما عاب الشاعر كف عبد الله بن مطيع العدوي حين وجدها غليظة جافية فقال
( دعا ابن مطيع للبياع فجئنه ... الى بيعة قلبي لها غير آلف )
( فناولني خشناء لما لمستها ... بكفي ليست من اكف الخلائف )
وهذا باب يقع في كتاب الجوارح مع ذكر البرص والعرج والعسر والادر والفلج والحدب والقرع وغير ذلك من علل الجوارح وهو وارد عليكم بعد هذا الكتاب ان شاء الله تعالى
وقال ابرهيم بن هانيء ومن تمام آلة الحارس ان يكون زميتا قطوبا أبيض اللحية أقنى أجنى وصاحب تكلم بالفارسية
وأخبرني ابراهيم بن السندى قال دخل العمانى الراجز على الرشيد لينشده شعرا وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج فقال إياك ان تنشدني الا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان قال إبراهيم قال ابو نصر فبكر عليه من الغد وقد تزيا بزي الاعراب فأنشده ثم دنا منه فقبل يده وقال يا أمير

المؤمنين قد والله أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزها وأنشدت السفاح ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المهدى ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت الهادي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته هذا الى كثير من أشباه الخلفاء وكبار الامراء والسادة الرؤساء ولا والله ان رأيت فيهم أبهى منظرا ولا أحسن وجها ولا انعم كفا ولا اندى راحة منك يا أمير المؤمنين ووالله لو ألقى في روعي أني أتحدث عنك ما قلت لك ما قلت فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على كلامه وأقبل عليه فبسطه حتى تمنى والله جميع من حضر انهم قاموا ذلك المقام
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول قال ابن الاعرابي قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي ما هذه البلاغة التي فيكم قال شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا فقال له رجل من عرض القوم يا أمير المؤمنين هم بالبسر والرطب أبصر منهم بالخطب فقال له صحار أجل والله انا لنعلم ان الريح لتنفخه وان البرد ليعقده وان القمر ليصبغه وان الحر لينضجه فقال له معاوية ما تعدون البلاغة فيكم قال الايجاز قال له معاوية وما الايجاز قال له صحار ان تجيب فلا تبطىء وأن تقول فلا تخطىء فقال معاوية او كذلك تقول قال صحار أقلني يا أمير المؤمنين لا تبطىء ولا تخطىء
وشأن عبد القيس عجيب وذلك انهم بعد محاربة أياد تفرقوا فرقتين ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب وفرقة وقعت الى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة وهذا عجب ومن خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان وشيخان بن صوحان ومنهم صحار بن عياش وصحار بن شيعة عثمان وبنو صوحان من شيعة علي ومنهم مصقلة بن رقبة ورقبة بن مصقلة وكرب بن رقبة
واذا صرنا الى ذكر الخطباء والنسابين ذكرنا من كلام كل واحد منهم بقدر

ما يحضرنا وبالله التوفيق
قال لي ابن الاعرابي قال لي المفضل بن محمد الضبي قلت لأعرابي منا ما البلاغة قال الايجاز في غير عجز والاطناب في غير خطل قال ابن الاعرابي فقلت للمفضل ما الايجاز عندك قال حذف الفضول وتقريب البعيد قال ابن الاعرابي قيل لعبد الله بن عمر لو دعوت الله لنا بدعوات فقال اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا فقال رجل لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن فقال نعوذ بالله من الاسهاب

باب ذكر ناس من البلغاء والخطباء والانبياء والفقهاء والامراء ممن لا
يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل
منهم زيد بن صولجان
ومنهم ابو وائلة إياس بن معاوية المزني القاضي وصاحب الركن والمعروف بحودة الفراسة ولكثرة كلامه قال له عبد الله بن شبرومة أنا وأنت لا نتفق انت لا تشتهي ان تسكت وانا لا اشتهي ان اسمع واتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق فاستولى على المجلس ورأوه احمر دميما باذ الهيئة قشيفا فاستهانوا به فلما عرفوه اعتذروا اليه وقالوا الذنب مقسوم بيننا وبينك اتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك ورأيت ناسا يستحسنون جواب إياس حين قيل له ما فيك عيب غير انك معجب بقولك قال أفأعجبكم قولي قالوا نعم قال فانا احق بان اعجب بما اقول وبما يكون مني منكم
والناس حفظك الله لم يضعوا ذكر العجب في هذا الموضع والمعيب عند الناس ليس هو الذي يعرف ما يكون منه من الحسن والمعرفة لا تدخل في باب التسمية بالعجب والعجب مذموم وقد جاء في الحديث ( ان المؤمن من ساءته سيئته وسرته حسنته ) وقيل لعمر فلان لا يعرف الشر قال ذلك أجدر ان يقع فيه وانما العجب اسراف الرجل في السرور بما يكون منه والافراط في استحسانه حتى يظهر ذلك منه في لفظه وفي شمائله وهو كالذي وصف به صعصعة بن صوحان المنذر بن الجارود عند علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فقال أما والله انه مع ذلك لنظار في عطفيه تفال في شراكيه

تعجبه حمرة برديه
قال ابو الحسن قيل لاياس ما فيك عيب الا كثرة الكلام قال فتسمعون صوابا أم خطأ قالوا بل صوابا قال فالزيادة من الخير خير وليس كما قال للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية وما فضل عن مقدار الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال فذلك الفاضل هو الهذر وهوالخطل وهو الاسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه وذكر الاصمعي ان عمر بن هبيرة لما أراده على القضاء قال إني لا اصلح له قال وكيف ذاك قال لاني عيي ولأني دميم ولأني حديد قال ابن هبيرة أما الحدة فان السوط يقومك وأما الدمامة فاني لا اريد ان أحاسن بك احدا وأما العي فقد عبرت عما تريد فان كان إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر ان يهجر الاكثار وبعد هذا فما نعلم أحدا رمى أياسا بالعي وإنما عابوه بالاكثار وذكر صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض إلا ما كان من عقل الحجاج بن يوسف وإياس بن معاوية فان عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كثيرا وقال قائل لاياس لم تعجل بالقضاء فقال له إياس كم لكفك من اصبع قال خمس قال عجلت قال لم يعجل من قال بعد ما قتل الشيء علما ويقينا قال إياس فهذا هو جوابي لك وكان كثيرا ما ينشد قول النابغة الجعدي
( أبى لي البلاء واني امروء ... إذا ما تبينت لم أرتب )
قال ومدح سلمة بن عياص سوار بن عبد الله بمثل ما وصف به إياس نفسه حين قال
( وأوقف عند الأمر ما لم يبن له ... وأمضى أذا ما شك ما كان ماضيا )
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الى عدي بن أرطاة ان قبلك رجلين من مزينة فول أحدهما قضاء البصرة يعني بكر بن عبد الله المزني وإياس بن معاوية فقال بكر والله ما أحسن القضاء فان كنت صادقا فما يحل لك ان توليني وان كنت كاذبا انها لأحراهما وكانوا اذا ذكروا البصرة قالوا شيخها الحسن وفتاها بكر وقال إياس بن معاوية لست بخب والخب لا يخدعني ولا يخدع ابن سيرين وهو يخدع أبي ويخدع الحسن ودخل الشام

وهو غلام فتقدم خصما له - وكان الخصم شيخا كبيرا - الى بعض قضاة عبد الملك بن مروان فقال له القاضي أتتقدم شيخا كبيرا قال الحق اكبر منه قال أسكت قال فمن ينطق بحجتي قال لا أظنك تقول حقا حتى تقوم قال لا إله إلا الله أحقا هذا أم باطل فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته فخبره بالخبر فقال عبد الملك اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام لا يفسد علي الناس فاذا كان من إياس وهو غلام يخاف على جماعة أهل الشام فما ظنك به وقد كبرت سنه وعض ناجذه
وجملة القول في إياس انه كان مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة وكان فقيه البدن رقيق المسلك في الفطن وكان صادق الحدس نقابا وعجيب الفراسة ملهما وكان عفيف الطعم كريم المدخل والشيم وجيها عند الخلفاء مقدما عند الاكفاء وفي مزينة خير كثير
ثم رجعنا الى القول الاول ومنهم ربيعة الرأي وكان لا يكاد يسكت قالوا وتكلم يوما فأكثر وأعجب بالذي كان منه فالتفت الى اعرابي كان عنده فقال يا اعرابي ما تعدون العي فيكم قال ما كنت فيه منذ اليوم وكان يقول الساكت بين النائم والاخرس
ومنهم عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي ومحمد بن حفص هو ابن عائشة ثم قيل لعبيد الله بن أبي عائشة وكان كثير العلم والسماع متصرفا في الخبر والاثر وكان من أجود قريش وكان لا يكاد يسكت وهو في ذلك كثير الفوائد وكان أبوه محمد بن حفص عظيم الشأن كثير العلم بعث اليه ميخاب خليفته في بعض الامر فأتاه في حلقته في المسجد فقال له في بعض كلامه أبو من أصلحك الله فقال له هلا عرفت هذا قبل مجيئك وان كان لا بد لك من هذا فاعترض من شئت فاسأله فقال له اني أريد ان تخليني قال أفي حاجة لك أم في حاجة لي قال بل في حاجة لي قال فالقني في المنزل قال فان الحاجة لك قال ما دون اخواني ستر
ومنهم محمد بن مسعر العقيلي وكان كريما كريم المجالسة يذهب مذهب النساك وكان جوادا مر صديق له من بني هاشم بقصر له وبستان نفيس فبلغه انه استحسنه فوهبه له

ومنهم أحمد بن المعذل بن غيلان كان يذهب مذهب مالك وكان ذا بيان وتبحر في المعاني وتصرف في الالفاظ
وممن كان يكثر الكلام جدا الفضل بن سهل ثم الحسن بن سهل في أيامه وحدثني محمد بن الجهم ودؤاد بن أبي دؤاد قالا جلس الحسن بن سهل في مصلى الجماعة لنعيم بن حازم فأقبل نعيم حافيا حاسرا وهو يقول ذنبي أعظم من السماء ذنبي أعظم من الهواء ذنبي أعظم من الماء قالا فقال الحسن بن سهل على رسلك تقدمت منك طاعة وكان آخر أمرك الى توبة وليس للذنب بينهما مكان وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو
ومن هؤلاء علي بن هشام وكان لا يسكت ولا أدرى كيف كان كلامه
قال وحدثني مهدى بن ميمون قال حدثنا غيلان بن جرير قال كان مطرف بن عبد الله يقول لا تطعم طعامك من لا يشتهيه يقول لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه وقال عبد الله بن مسعود حدث الناس ما حدجوك باسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فأمسك قال وجعل السماك يوما يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه فلما انصرف اليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت ما أحسنه لولا انك تكثر ترداده فقال أردده حتى يفهمه من لم يفهمه قالت الى ان يفهمه من لم يفهمه قد ملة من فهمه قال عباد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال مكتوب في التوراة لا يعاد الحديث مرتين وسفيان بن عيينه عن الزهري قال إعادة الحديث أشد من نقل الصخر وقال بعض الحكماء من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك
وجملة القول في الترداد انه ليس فيه حد ينتهي اليه ولا يؤتى الى وصفه وانما ذلك على قدر المستمعين له ومن يحضرة من العوام والخواص وقد رأينا الله عز و جل ردد ذكر قصة موسى وهود وهرون وشعيب وابراهيم ولوط وعاد وثمود وكذلك ذكر الجنة والنار وأمور كثيرة لانه خاطب جميع الامم من العرب وأصناف العجم واكثرهم غبي غافل او معاند مشغول الفكر ساهي القلب واما حديث القصص والرقة فاني لم أر احدا يعيب ذلك وما سمعناه بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الالفاظ وترداد المعاني عيا إلا ما كان من النخار بن أوس العذري فانه كان إذا تكلم في الحمالات وفي الصفح

والاحتمال وصلاح ذات البين وتخويف الفريقين من التفاني والبوار كان ربما ردد الكلام علىطريق التهويل والتخويف وربما حمى فنخر
قال ثمامة بن أشرس كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الاعادة ولو كان في الارض ناطق يستغني بمنطقه عن الاشارة لاستغنى جعفر عن الاشارة كما استغنى عن الاعادة وقال مرة ما رأيت احدا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد ولا يلتمس التخلص الى معنى قد تعصى عليه طلبه اشد اقتدارا ولا أقل تكلفا من جعفر بن يحيى وقال ثمامة قلت لجعفر بن يحيى ما البيان قال ان يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لابد منه ان يكون سليما من التكلف بعيدا من الصنعة بريئا من التعقيد غنيا عن التأويل
وهذا هو تأويل قول الأصمعي البليغ من طبق المفصل وأغناك عن المفسر
خبرني جعفر بن سعيد رضيع أيوب بن جعفر وحاجبه قال ذكرت لعمرو ابن مسعدة توقيعات جعفر بن يحيى قال قد قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني قال ووصف اعرابي أعرابيا بالايجاز والاصابة فقال كان والله يضع الهناء مواضع النقب يظنون انه نقل قول دريد بن الصمة في الخنساء بنت عمرو بن الشريد الى ذلك الموضع وكان دريد قال فيها
( ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب )
( متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب )
ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز فلان يفل المحز ويصيب المفصل وأخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثلا للمصيب الموجز وأنشدني ابو قطن الغنوي وهو الذي يقال له شهيد الكرم وكان أبين من رأيته من أهل البدو والحضر

( فلو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... علي لمخلوق من الناس درهما )
( ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي ان أدين وتغرما )
( أولئك قوم بارك الله فيهم ... على كل حال ما أعف وأكرما )
( جفاة المحز لا يصيبون مفصلا ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذما )
يقول هم ملوك وأشباه الملوك ولهم كفاة فهم لا يحسنون إصابة المفصل وأنشد أبو عبيدة في مثل ذلك
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... جفاة المحز غلاظ القصر )
وكذلك
( ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
وقال الآخر وهو ابن الزبعري
( وفتيان صدق حسان الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم )
( من آل المغيرة لا يشهدون ... عند المجازر لحم الوضم )
وقال الراعي في المعنى الاول
( فطبقن عرض القف حتى لقينه ... كما طبقت في العظم مدية جازر )
وأنشد الاصمعي
( وكف فتى لم يعرف السلخ قبلها ... تجور يداه في الأديم وتجرح )
وأنشد الأصمعي
( لا يمسك العرف إلا ريث يرسله ... ولا يلاطم عند اللحم في السوق )
وقد فسر ذلك لبيد بن ربيعة وبينه وضرب المثل به حيث قال في الحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة
( ياهرم ابن الاكرمين منصبا ... إنك قد أوتيت حكما معجبا )
( فطبق المفصل واغنم طيبا ... )
يقول أحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل وبأمر قاطع فتفصل بها بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين وقد قال الشاعر في هرم
( قضى هرم يوم المريرة بينهم ... قضاء امرىء بالأولية عالم )
( قضى ثم ولى الحكم من كان أهله ... وليس ذنابى الريش مثل القوادم )

ويقال في الفحل اذا لم يحسن الضراب جمل عياياء وجمل طباقاء وقالت امرأة في الجاهلية تشكو زوجها زوجي عياياء طباقاء وكل داء له دواء حتى جعلوا ذلك مثلا للعي الفدم الذي لا يتجه للحجة وقال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يقد ... ركابا الى اكوارها حين تعكف )
وذكر زهير بن ابي سلمى الخطل فعابه فقال
( وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله )
( عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله )
وقال الشاعر
( شمس اذا خطل الحديث أوانس ... يرقبن كل مجذر تنبال )
وقال ابو الاسود الدؤلي - واسم ابي الاسود ظالم بن عمرو - وكان من المقدمين في العلم
( وشاعر سوء يهضب القول ظالما ... كما اقتم أعشى مظلم الليل حاطب )
وأنشد
( أعوذ بالله الاعز الاكرم ... من قولي الشيء الذي لم أعلم )
( تخبط الاعمى الضرير الأيهم ... )
وقال ابرهيم بن هرمة في تطبيق المفصل وتلحق هذه بمعاني اخواتها قبل
( وعميمة قد سقت فيها عائرا ... غفلا وفيها عائرا موسوم )
( طبقت مفصلها بغير حديدة ... فرأى العدو عناي حيث أقوم )
وهذه الصفات التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيى كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره وما علمت انه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه وكان لفظه في وزن اشارته ومعناه في طبقة لفظه ولم يكن لفظه الى سمعك باسرع من معناه الى قلبك قال بعض الكتاب معاني ثمامة الظاهرة في الفاظه الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخزيمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول
( له كلم فيك معقولة ... الى القلوب كركب وقوف )
وأول هذه القصيدة

( أبا دلف دلفت حاجتي ... اليك وما خلتها بالدلوف )
ويظنون ان الخزيمي إنما احتذى في هذا البيت على أيوب بن القرية حين قال له بعض السلاطين ما أعددت لهذا الموقف قال ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف دنيا وآخرة ومعروف
وحدثني صالح بن خاقان قال قال شبيب بن شيبة الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة القطع وبمدح صاحبه وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة ارفع من حظ سائر البيت ثم قال شبيب فان ابتليت بمقام لا بد لك فيه من الاطالة فقدم إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل قبل التقدم في إحكام البلوغ في شرف التجويد وإياك ان تعدل بالسلامة شيئا فان قليلا كافيا خير من كثير غير شاف
ويقال انهم لم يروا قط خطيبا بلديا الا وهو في اول تكلفه لتلك المقامات كان مستثقلا مستصلفا ايام رياضته كلها الى ان يتوقح وتستجيب له المعاني ويتمكن من الالفاظ إلا شبيب بن شيبة فانه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام مالا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيرة قالوا ولما مات شبيب بن شيبة أتاهم صالح المري أو بعض من اتاهم للتعزية فقال رحمه الله على أديب الملوك وجليس الفقراء وأخي المساكين وقال الراجز
( اذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها )
( من مطلع الشمس الى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها )
حدثني صديق لي قال قلت للعتابي ما البلاغة قال كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ فاذا اردت اللسان الذي يروق الالسنة ويفوق كل خطيب باظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق قال فقلت له قد عرفت الاعادة و الحبسة فما الاستعانة قال أما تراه اذا تحدث قال عند مقاطع كلامه يا هناه ويا هذا وياهيه واسمع مني واستمع ألي وافهم عني أولست تفهم او لست تعقل فهذا كله وما أشبهه عي وفساد
قال عبد الكريم بن روح الغفاري حدثني عمر الشمري قال قيل لعمرو

ابن عبيد ما البلاغة قال ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك قال السائل ليس هذا اريد قال من لم يحسن ان يستمع ومن لم يحسن القول قال ليس هذا اريد قال قال النبي إنا معشر الانبياء بكاء
اي قليلو الكلام ومنه قيل رجل بكى وكانوا يكرهون ان يزيد منطق الرجل على عقله
قال السائل ليس هذا أريد قال كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام مالا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت قال السائل ليس هذا أريد قال عمرو فكأنك إنما تريد تحبير اللفظ في حسن الإفهام قال نعم قال انك ان اردت تقرير حجة الله في عقول المتكلمين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الاذان المقبولة عند الاذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت على الله جزيل الثواب
قلت لعبد الكريم من هذا الذي صبر له عمرو هذا الصبر قال قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال ومن كان يجترىء عليه هذه الجرأة الا حفص ابن سالم
قال عمر الشمري كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم فان تكلم لم يكد يطيل وكان يقول لا خير في المتكلم اذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه واذا طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف ولا خير في شيء يأتيك به التكلف
وقال بعضهم - وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوناه - لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك
وكان موسى بن عمران يقول لم أر انطق من ايوب بن جعفر ويحيى بن خالد وكان ثمامة يقول لم أر انطق من جعفر بن يحيى بن خالد وكان سهل بن هرون يقول لم أر انطق من المأمون أمير المؤمنين وقال ثمامة

سمعت جعفر بن يحيى يقول لكتابه ان استطعتم ان يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا وسمعت أبا العتاهية يقول لو شئت ان يكون حديثي كله شعرا موزونا لكان وقال اسحق بن حسان بن فوهة لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط سئل ما البلاغة قال البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الاشارة ومنها ما يكون في الحديث ومنها ما يكون في الاحتجاج ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون ابتداء ومنها ما يكون شعرا ومنها ما يكون سجعا وخطبا ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون من هذه الابواب الوحي فيها والاشارة الى المعنى والايجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي اصلاح ذات البين فالاكثار في غير خطل والاطالة في غير املال وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كما ان خير ابيات الشعر البيت الذي اذا سمعت صدره عرفت قافيته
كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فانه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير الى مغزاك والى العمود الذي اليه قصدت والغرض الذي اليه نزعت
قال فقيل له فان مل المستمع الاطالة التي ذكرت انهاحق ذلك الموقف قال اذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فانه لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضا الناس شيء لا ينال
قال والسنة في خطبة النكاح ان يطيل الخاطب ويقصر المجيب ألا ترى الى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال مالي فيها ايها العشمتان قالا بل ما عندك قال عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس الى ان تغرب آمر فيها بالتواصل وانهى فيها عن التقاطع
قالوا فخطب يوما الى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنى

فقيل لابي يعقوب هلا أكتفي بالامر بالتواصل عن النهي عن التقاطع او ليس الامر بالصلة هو النهي عن القطيعة قال او ما علمت ان الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الافصاح والتكشف
قال وسئل ابن المقفع عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يتصعدني كلام كما تصعدني خطبة النكاح قال ما أعرفه الا ان يكون اراد قرب الوجوه من الوجوه ونظر الحداق من قرب في اجواف الحداق ولانه اذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء واذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية وقد ذهب ذاهبون الى ان تأويل قول عمر يرجع الى ان الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب فلعله كره ان يمدحه بما ليس فيه فيكون قد قال زورا وغر القوم من صاحبه ولعمري ان هذا التأويل ليجوز اذا كان الخطيب موقوفا على الخطابة فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأشباهه من الأئمة الراشدين رضوان الله تعالى عليهم اجمعين فلم يكونوا ليتكلفوا ذلك الا فيمن يستحق المدح
وروى ابو مخنف عن الحارث الاعور قال والله لقد رأيت عليا وانه لخطب قاعدا كقائم ومحاربا كمسالم يريد بقوله قاعدا خطبة النكاح
وقال الهيثم بن عدي لم تكن الخطباء تخطب قعودا الا في خطبة النكاح
وكانوا يستحسنون ان يكون في الخطب يوم الحفل وفي الكلام يوم الجمع اي من القران فان ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وحسن الموقع قال الهيثم قال عمران بن حطان ان اول خطبة خطبتها عند زياد - او قال عند ابن زياد - فأعجب بها زياد وشهدها عمي وأبي ثم اني مررت ببعض المجالس فسمعت رجلا يقول لبعضهم هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القران
واكثر الخطباء لا يتمثلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر ولا يكرهونه في الرسائل الا ان تكون الى الخلفاء وسمعت مؤمل بن خاقان - وذكر في خطبته تميم بن مر - فقال ان تميما له الشرف القديم العود والعز الاقعس والعدد الهيضل وهي في الجاهلية القدام والذروة والسنام وقد قال الشاعر

( فقلت له وأنكر بعض شأني ... ألم تعرف رقاب بني تميم )
وكان المؤمل وأهله يخالفون جمهور بني سعد في المقالة فلشدة تحدبه على سعد وشفقته عليهم كان يناضل عند السلطان كل من سعى على أهل مقالتهم وان كان قوله خلاف قولهم حدبا عليهم وكان صالح المري القاص العابد البليغ كثيرا ما ينشد في قصصه وفي واعظه هذا البيت
( فبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل )
وأنشد الحسن في مجلسه وفي قصصه وفي مواعظه
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الاحياء )
وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي الخطيب القاص الشجاع إما في قصصه وإما في خطبه رحمه الله سبحانه وتعالى
( أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد )
( جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد )
( فأرى النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصيرإلى بلى ونفاد )
وقال ابوالحسن خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة في العيد فأنشد في خطبته
( أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها )
( تلك المدائن بالآفاق خالية ... أمست خلاء وذاق الموت باليها )
وكان مالك بن دينار يقول في قصصه ما أشد فطام الكبير
وهو كما قال القائل
( وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم )
ومثله ايضا قول صالح بن عبد القدوس
( والشيخ لا يترك اخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه )
( اذا ارعوى عاد الى جهله ... كذي الضنى عاد الى نكسه )
قال كلثوم بن عمرو العتابي
( وكنت امرأ لو شئت ان تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمة تستديمها )
( ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصخرة الصماء حين ترومها )
وكانوا يمدحون الجهير الصوت ويذمون الضئيل الصوت ولذلك تشادقوا

في الكلام ومدحوا سعة الفم وذموا صغر الفم حدثني محمد بن بشير الشاعر قيل لاعرابي ما الجمال قال القامة وضخم الهامة ورحب الشدق وبعد الصوت وسأل جعفر بن سليمان أبا المخش عن ابنه المخش وكان جزع عليه جزعا شديدا قال صف لي المخش فقال كان أشدق خرطمانيا سائلا لعابه كأنما ينظر من قلتين كأن ترقوته بوان او خالفة كأن منكبه كركرة جمل ثقال فقأ الله عيني ان كنت رأيت قبله او بعده مثله قال وقلت لاعرابي ما الجمال قال غؤور العينين واشراف الحاجبين ورحب الشدقين
قال دغفل بن حنظلة النسابة والخطيب العلامة حين سأله معاوية عن قبائل قريش فلما انتهى الى بني مخزوم قال معزى مطيرة عليها قشعريرة الا بني المغيرة فان فيهم تشادق الكلام ومصاهرة الكرام
وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الاشدق
( تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبالك أشدق )
وأنشد ابو عبيدة
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... رحاب الشداق طوال القصر )
وتكلم يوما عند معاوية الخطباء فأحسنوا فقال والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق قم يا يزيد فتكلم
وهذا القول وغيره من الاخبار والاشعار حجة لمن زعم أن عمرو بن سعيد لم يسم الاشدق للفقم ولا للقوة وقال يحيى بن نوفل في خالد بن عبد الله القسري
( بل السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لماجد في الهرب )
( وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في الخطب )
ويدلك على تفضيلهم سعة الاشداق وهجائهم ضيق الافواه قول الشاعر
( لحا الله أفواه الدبى من قبيلة ... إذا ذكرت في النائبات أمورها )
وقال الآخر
( وأفواه الدبى حاموا قليلا ... وليس أخو الحماية كالضجور )
وإنما شبه أفواههم بأفواه الدبى لصغر أفواههم وضيقها وعلى ذلك المعنى هجا عبدة بن الطبيب حيي بن هزال وابنيه فقال

( تدعو بنيك عبادا وجرثمة ... يافأرة شجها في الحجر محفار )
وقد كان العباس بن عبد المطلب جهيرا جهير الصوت وقد مدح بذلك وقد نفع الله المسلمين بجهارة صوته يوم حنين حين ذهب الناس عن رسول الله فنادى العباس يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله فتراجع القوم وأنزل الله عز و جل النصرة وأتى بالفتح
اخبرني ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان قيس ابن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف يمكو حول البيت فيسمع ذلك من حراء قال الله تعالى ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) فالتصدية التصفيق والمكاء التصفير او شبيه بالصفير ولذلك قال عنترة
( وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الاعلم )
وقال العجير السلولي في شدة الصوت
( ومنهن قرعى كل باب كأنما ... به القوم يرجون الأذين نشور )
( فجئت وخصمي يصرفون نيوبهم ... كما قصبت بين الشفار جزور )
( لدى كل موثوق به عند مثلها ... له قدم في الناطقين خطير )
( جهير وممتد العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبير )
( فظل رداء العصب ملقى كأنه ... سلى فرس تحت الرجال عقير )
( لو ان الصخور الصم يسمعن صلقنا ... لرحن وفي اعراضهن فطور )
وقال مهلهل
( ولولا الريح اسمع أهل نجد ... صليل البيض تقرع بالذكور )
وفي شدة الصوت يقول الاعشى في وصفه الخطيب بذلك
( فيهم الخصب والسماحة والنجدة ... جمعا والخاطب الصلاق )
وقال بشار بن برد في ذلك ويهجو بعض الخطباء
( ومن عجب الايام ان قمت ناطقا ... وأنت ضئيل الصوت منتفخ السحر )
ووقع بين فتى من النصارى وبين ابن فهريز كلام فقال له الفتى ما ينبغي ان يكون في الارض رجل واحد أجهل منك وكان ابن فهريز في نفسه اكثر الناس علما وأدبا وكان حريصا على الجثلقة فقال للفتى وكيف حللت عندك هذا المحل قال لانك تعلم انا لا نتخذ الجاثليق الا مديد القامة وأنت

قصير القامة ولا نتخذه الا جهير الصوت جيد الخلق وأنت دقيق الصوت رديء الخلق ولا نتخذه الا وهو وافر اللحية عظيمها وانت خفيف اللحية صغيرها وانت تعلم أنا لا نختار للجثلقة الا رجلا زاهدا في الرياسة وأنت أشد الناس عليها كلبا وأظهرهم لها طلبا فكيف لا تكون أجهل الناس وخصالك هذه كلها تمنع من الجثلقة وأنت قد شغلت في طلبها بالك وأسهرت فيها ليلك وقال ابو الحجناء في شدة الصوت
( إني اذا ما زبب الاشداق ... والتج حولى النقع واللقلاق )
( ثبت الجنان مرجم وداق ... )
وجاء في الحديث من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه وقي الشر يعني لسانه وبطنه وفرجه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بواكي خالد بن الوليد ابن المغيرة وما عليهن يرقن من دموعهن على ابي سليمان مالم يكن نقع او لقلقه وجاء في الاثر ليس منا من حلق او صلق او سلق او شق
ومما مدح به العماني هرون الرشيد بالقصيد دون الرجز قوله
( جهير العطاس شديد النياط ... جهير الرواء جهير النغم )
( ويخطو على الأين خطو الظليم ... ويعلو السماط بجسم عمم )
وكان الرشيد اذا طاف بالبيت جعل لازاره ذنبين عن يمين وشمال ثم طاف بأوسع من خطو الظليم وأسرع من رجع يد الارنب وقد اخبرني ابرهيم ابن السندي بمحصول ذرع ذلك الخطو الا اني احسبه فراسخ فيما رأيته يذهب اليه قال ابراهيم - ونظر اليه اعرابي في تلك الحال والهيئة - فقال خطو الظليم ريع ممسى فانشمر
وحدثني ابراهيم السندى قال ما أتى عبد الملك بن صالح وفد الروم وهو في البلاد أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهام ومناكب وأجسام وشوارب وشعور فبينا هم قيام يكلمونه ومنهم رجل وجهه في قفا البطريق اذ عطس عطسة ضئيلة فلحظه عبد الملك فلم يدر أي شيء أنكر منه فلما مضى الوفد قال له ويلك هلا اذ كنت ضيق المنخر كز الخيشوم أتبعتها بصيحة تخلع بها قلب العلج
وفي تفصيل الجهازة يقول شبة بن عقال بعقب خطبته عند سليمان بن علي

ابن عبد الله بن عباس
( ألا ليت أم الجهم والله سامع ... ترى حيث كانت بالعراق مقامي )
( عشية بذ الناس جهري ومنطقي ... وبذ كلام الناطقين كلامي )
وقال طحلاء يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخطبة
( ركوب المنابر وثابها ... معن بخطبته مجهر )
( تريع اليه هوادي الكلام ... اذا ضل خطبته المهذر )
وزعموا ان أبا عطية عفيفا النصري في الحرب التي كانت بين ثقيف وبين بني نصر لما رأى الخيل بعقوتة يومئذ وأيس نادى يا صباحاه أتيتم يا بني نصر فألقت الحبالى أولادها من شدة صوته قالوا فقال ربيعة بن مسعود يصف تلك الحرب وصوت عفيف
( عقاما ضروسا بين عوف ومالك ... شديدا لظاها تترك الطفل أشيبا )
( وكانت جعيل يوم عمرو أراكة ... أسود الغضا غادرن لحما متربا )
( ويوم بمكروثاء شدت معتب ... بغاراتها قد كان يوما عصبصبا )
( فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف وقد نادى بنصر فطربا )
وكان أبو عروة - الذي يقال له ابو عروة السباع - يصيح بالسبع وقد احتمل الشاة فيخليها ويذهب هاربا على وجهه فضرب به الشاعر المثل وهو النابغة الجعدي فقال
( وأزجر الكاشح العدو اذا اغتابك ... عندي زجرا على أضم )
( زجر أبي عروة السباع اذا ... أشفق ان يلتبسن بالغنم )
وأنشد ابو عمرو الشيباني لرجل من الخوارج بصف صيحة شبيب بن يزيد ابن نعيم قال ابو عبيدة وأبو الحسن كان شبيب يصيح في جنبات الجيش اذا أتاه فلا يلوي أحد على أحد وقال الشاعر فيه
( إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم )
قال أبو العاصي أنشدني ابو محرز خلف بن حيان - وهو خلف الاحمر مولى الاشعريين - في عيب التشادق
( له حنجر رحب وقول منقح ... وفصل خطاب ليس فيه تشادق )
( اذا كان صوت المرء خلف لهاته ... وأنحى بأشداق لهن شقاشق )

( وقبقب يحكي مقرما في هبابه ... فليس بمسبوق ولا هو سابق )
وقال الفرزدق شقاشق بين اشداق وهام
وأنشد خلف
( وما في يديه غير شدق يميله ... وشقشقة خرساء ليس لها تعب )
( متى رام قولا خالفته سجية ... وضرس كقعب القين ثلمه الشعب )
وأنشد أبوعمر بن العلاء
( وجائت قريش قريش البطاح ... هي العصب الأول الداخله )
( يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة المائلة )
وقال الشاعر في خالد بن سلمة المخزومي الخطيب
( فما كان قائلهم دغفل ... ولا الحيقطان ولا ذو الشفه )
وأنشد أصحابنا
( وقافية لجلجتها فرددتها ... لذي الضرس لو أرسلتها قطرت دما )
وقال الفرزدق أنا عند الناس أشعر العرب ولربما كان نزع ضرس أيسر علي من ان اقول بيت شعر
وأنشدنا منيع
( فجئت ووهب كالخلاة تضمها ... الى الشدق أنياب لهن صريف )
( فقعقعت لحيى خالد واهتضمته ... بحجة خصم بالخصوم عنيف )
وقال ابو يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير سئل الحارس بن ابي ربيعة عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فقال كم كان له ما شئت من ضرس قاطع في العالم بكتاب الله والفقه في السنة والهجرة الى الله ورسوله والبسطة في العشيرة والنجدة في الحرب والبذل للماعون قال الاخر
( ولم تلفني فها ولم تلف حجتي ... ملجلجة أبغي لها من يقيمها )
( ولا بت أزجيها قضيبا وتلتوى ... أراوغها طورا وطورا أضيمها )
وأنشدني ابو الرديني العكلي
( فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... اذا الخطباء الصيد عضل قيلها )
وقيل الخزيمى في تشادق علي بن الهيثم
( يا علي بن هيثم يا سماقا ... قد ملات الدنيا علينا بقاقا )
( خل لحييك يسكنان ولاتضرب ... رب على تغلب بلحييك طاقا )

( لا تشادق اذا تكلمت واعلم ... ان للناس كلهم أشداقا )
وكان على بن الهيثم جوادا بليغ اللسان والقلم
قال لي ابو يعقوب الخزيمي ما رأيت كثلاثة رجال يأكلون الناس أكلا حتى اذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الملح في الماء او الرصاص عند النار
كان هشام بن الكلبي علامة نسابة وراوية للمثالب عيابة فاذا رأى الهيثم ابن عدي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان الهيثم بن عدي مفقعا نيا صاحب تفقيع وتقعير ويستولي على كلام اهل المجلس لا يحفل بشاعر ولا بخطيب فاذارأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان علويه المغني احد الناس في الرواية وفي الحكاية وفي صنعة الغناء وجودة الضرب وفي الاطراب وحسن الخلق فاذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص عند النار
ثم رجع بنا القول الى ذكر التشديق وبعد الصوت قال ابو عبيدة كان عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب رديفا للملوك ورحالا اليهم وكان يقال له عروة الرحال فكان يوم أقبل مع ابن الجون يريد بني عامر فلما انتهى الى واردات مع الصبح قال له عروة انك قد عرفت طول صحبتي لك ونصيحتي اياك فأذن لي فأهتف بقومي هتفة قال نعم وثلاثا فقام فنادى يا صاحباه ثلاث مرات قال فسمعنا شيوخنا يزعمون انه اسمع اهل الشعب فتلببوا للحرب وعسبوا الربايا ينظرون من أين يأتي القوم قالوا وتقول الروم لولا ضجة أهل رومية وأصواتهم لسمع الناس جميعا صوت وجوب القرص في المغرب
وأعيب عندهم من دقة الصوت وضيق مخرجه وضعف قوته ان يعترض الخطيب البهر والارتعاش والرعدة والعرق قال ابو الحسن قال سفيان بن عيينة تكلم صعصعة عند معاوية فعرق قال معاوية بهرك القول فقال صعصعة ان الجياد نضاحة بالماء
والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشا كان ذلك عيبا وكذلك هو في الكثرة واذا ابطأ ذلك وكان قليلا قيل قد كبا وهو فرس كاب وذلك عيب ايضا
وأنشدني ابن الاعرابي لابي مسمار العكلي في شبيه بذلك قوله

( لله در عامر اذا نطق ... في حفل إملاك وفي تلك الحلق )
( ليس كقوم يعرفون بالشدق ... من خطب الناس ومما في الورق )
( يلفقون القول تلفيق الخلق ... من كل نضاح الذفارى بالعرق )
( اذا رمته الخطباء بالحدق ... )
وانما ذكر خطب الاملاك لانهم يذكرون انه يعرض للخطيب فيها من الحصر اكثر مما يعرض لصاحب المنبر ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح وقال العماني
( لاذفر هش ولا بكاب ... ولا بلجلاج ولا هياب )
وقال الكميت بن زيد وكان خطيبا ان للخطبة صعداء وهي على ذي اللب أرمى
وقولهم أرمى وأربى سواء يقال فلان قد أرمي على المائة وأربى ولم أر الكميت افصح عن هذا المعنى ولا تخلص الى خاصته وانما يجترىء علىالخطبة الغمر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء او المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتدراه فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر والعرق
قال عبيد الله بن زياد وكان خطيبا على لكنة كانت فيه نعم الشيء الامارة لولا قعقعة البرد والتشدق للخطب وقيل لعبد الملك بن مروان عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين قال وكيف لا يعجل على وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة او مرتين
يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الامور قال بعض الكلابيين
( وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله محتالا )
( واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا )

كلام بشر بن المعتمر
حين مر بابرهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلم فتيانهم الخطابة فوقف بشر فظن ابرهيم أنه إنما وقف ليستفيد او ليكون رجلا من النظارة فقال بشر أضربوا عما قال صفحا واطووا عنه كشحا
ثم دفع اليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه وكان أول ذلك الكلام

خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراع بالك واجابتها إياك فان قليل تلك الساعة اكرم جوهرا وأشرف حسبا واحسن في الاسماع وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع واعلم ان ذلك اجدى عليك مما يعطيك [ يومك الاطول بالكد والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة ومهما اخطأك لم يخطئك ان يكون مقبولا قصدا وخفيفا على اللسان سهلا وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه وإياك والتوعر فان التوعر يسلمك الى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك ومن أراد معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما ان تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما وعما تعود من اجله الى ان تكون اسوأ حالا منك قبل ان تلتمس اظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما وكن في ثلاث منازل فان أولى الثلاث ان يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا إما عند الخاصة ان كنت للخاصة قصدت وإما عند العامة ان كنت للعامة أردت والمعنى ليس يشرف بان يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بان يكون من معاني العامة وإنما مدار الشرف على الصواب واحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال وكذلك اللفظ العامي والخاصي فان امكنك ان تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك على ان تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الالفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الاكفاء فانت البليغ التام
قال بشر فلما قرئت على ابراهيم قال لي أنا احوج الىهذا من هؤلاء الفتيان
قال ابو عثمان اما انا فلم أر قط امثل طريقة في البلاغة من الكتاب فانهم قد التمسوا من الالفاظ ما لم يكون متوعرا وحشيا ولا ساقطا سوقيا واذا سمعتموني أذكر العوام فاني لست أعني الفلاحين والحشوة والصناع والباعة ولست أعني الاكراد في الجبال وسكان الجزائر في البحار ولست أعني من الامم مثل اليبر والطيلسان ومثل موقان وجيلان ومثل

الزنج وأمثال الزنج وانما الامم المذكورون من جميع الناس أربع العرب وفارس والهند والروم والباقون همج وأشباه الهمج وأما العوام من اهل ملتنا ودعوتنا ولغتنا وادبنا واخلاقنا فالطبقة التي عقولها واخلاقها فوق تلك الامم ولم يلبغوا منزلة الخاصة منا على ان الخاصة تتفاضل في الطبقات أيضا
ثم رجع بنا القول الى بقية كلام بشر بن المعتمر والى ما ذكر من الاقسام قال بشر
فان كانت المنزلة الاولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند اول نظرك وفي اول تكلفك وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر الى قرارها والى حقها من اماكنها المقسومة لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تصل بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الاماكن والنزول في غير اوطانها فانك اذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك احد وان انت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك بصيرا مما عليك او مالك عابك من انت اقل عيبا منه ورأى من هو دونك انه فوقك فان ابتليت بان تتكلف القول وتتعاطى الصنعة ولم تسمح لك الطباع في اول وهلة وتعصى عليك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أوسواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك فانك لا تعدم الاجابة والمواتاة ان كانت هناك طبيعة او جريت من الصناعة على عرق فان تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول اهمال فالمنزلة الثالثة ان تتحول من هذه الصناعة الى اشهى الصناعات اليك واخفها عليك فانك لم تشتهه ولم تنازع اليه الا وبينكما نسب والشيء لا يحن الا الى ما يشاكله وان كانت المشاكلة قد تكون في طبقات لان النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة فهكذا هذا
وقال ينبغي للمتكلم ان يعرف اقدار المعاني ويوازن بينها وبين اقدار المستمعين وبين اقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما حتى يقسم اقدار الكلام على اقدار المعاني ويقسم

اقدار المعاني على اقدار المقامات واقدار المستمعين على اقدار تلك الحالات فان كان الخطيب متكلما تجنب الفاظ المتكلمين كما انه ان عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا او مجيبا او سائلا كان اولى الالفاظ به الفاظ المتكلمين اذ كانوا لتلك العبارات أفهم والى تلك الالفاظ أميل واليها أحن وبها أشغف ولان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق اكثر الخطباء وابلغ من كثير من البلغاء وهم تخيروا تلك الالفاظ لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الاسماء وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف وقدوة لكل تابع ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس وفرقوا بين البطلان والتلاشي وذكروا الهذية والهوية والماهية واشباه ذلك وكما وضع الخليل ابن احمد لاوزان القصيد وقصار الارجاز القابا لم تكن العرب تتعارف تلك الاعاريض بتلك الالقاب وتلك الاوزان بتلك الاسماء كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل واشباه ذلك وكما ذكر الاوتاد والاسباب والخرم والزحاف وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والاقواء والاكفاء ولم اسمع الايطاء وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب وذكروا حروف الروي والقوافي وقالوا هذا بيت وهذا مصراع وقد قال جندل الطهوي حين مدح شعره
( لم أقو فيهن ولم أساند ... )
وقال ذو الرمة
( وشعر قد أرقت له غريب ... أجانبه المساند والمحالا )
وقال أبو حزام العكلي
( بيوتا نصبنا لتقويمها ... جذول الربيئين في المربأه )
( بيوتا على الهالها سجحة ... بغير السناد ولا المكفأه )
وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك لانهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم العروض والنحو
وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا اسماء وجعلوها علامات للتفاهم

قالوا وقبيح بالخطيب ان يقوم بخطبة العيد او يوم السماطين او على منبر جماعة او في سدة دار الخلافة او في يوم جمع وحفل إما في اصلاح بين العشائر واحتمال دماء القبائل واستلال تلك الضغائن والسخائم فيقول كما قال بعض من خطب على منبر ضخم الشان رفيع المكان ثم ان الله عز و جل بعد ان أنشأ الخلق وسواهم ومكن لهم لاشاهم فتلاشوا ولولا ان المتكلم افتقر الى ان يلفظ بالتلاشي لكان ينبغي ان يؤخذ فوق يده وخطب آخر في وسط دار الخلافة فقال في خطبته واخرجه الله من باب الليسية فأدخله في باب الايسية وقال مرة اخرى في خطبة له هذا فريق ما بين السار والضار والدفاع وقال مرة اخرى فدل ساتره على غامره ودل غامره على منحله فكاد ابرهيم ابن السندى يطير شفقا ويتقد غيظا هذا وابراهيم من المتكلمين والخطيب لم يكن من المتكلمين
وانما جازت هذه الالفاظ في صناعة الكلام حين عجزت الاسماء عن اتساع المعاني وقد تحسن أيضا ألفاظ المتكلمين في مثل شعر ابي نواس وفي كل ما قالوه على جهة التظرف والتملح كقول أبي نواس
( وذات خد مورد ... قوهية المتجرد )
( تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد )
( فبعضها قد تناهى ... وبعضها يتولد )
( والحسن في كل عضو ... منها معاد مردد )
وكقوله
( يا عاقد القلب مني ... هلا تذكرت حلا )
( تركت قلبي قليلا ... من القليل أقلا )
( يكاد لا يتجزا ... أقل في اللفظ من لا )
وقد يتلمح الاعرابي بان يدخل في شعره شيئا من كلام الفارسية كقول العماني للرشيد في قصيدته التي مدحه فيها
( من يلقه من بطل مسرند ... في زغفة محكمة بالسرد )
( يجول بين رأسه والكرد ... )
يعني العنق ويقول فيه أيضا

( لما هوى بين غياض الاسد ... وصار في كف الهزبر الورد )
( آلى يذوق الدهر آب سرد ... )
وكقول الاخر
( وولهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجز قفد )
( بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسومونني مردا وما أنا والمرد )
ومثل هذا موجود في شعر العذافر الكندي وغيره ويجوز أيضا ان يكون الشعر مثل شعر الحروشاذ وأسود بن أبي كريمة كما قال يزيد بن ربيعة ابن مفرغ
( آب ست نبيذ است ... عصارات زبيب است )
( سمية روسبيد است ... )
وقال أسود بن أبي كريمة
( لزم الغرام ثوبي ... بكرة في يوم سبت )
( فتمايلت عليهم ... ميل زنكي بمست )
( قد حسا الداذي صرفا ... او عقارا بايخست )
( ثم كفتم ذو زياد ... ويحكم ان خر كفت )
( إن جلدي دبغته ... أهل صنعاء بحفت )
( وأبو عمرة عندي ... ان كور يذنمست )
( جالس اندر مكناد ... ايا عمد بنهشت )
وكما لا ينبغي ان يكون اللفظ عاميا ساقطا سوقيا فكذلك لا ينبغي ان يكون غريبا وحشيا الا ان يكون المتكلم بدويا اعرابيا فان الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي
وكلام الناس في طبقات كما ان الناس أنفسهم في طبقات فمن الكلام الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسميح والخفيف والثقيل وكله عربي وبكل قد تكلموا وبكل قد تمادحوا وتعايبوا قال زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل ولا بينهم في ذلك تفاوت فلم ذكروا الغيبي والبكي والحصر والمفحم والخطل والمسهب والمتشدق والمتفهق والمهماز والثرثار والمكثار والمهماز ولم ذكروا الهجر والهذر

والهذيان والتخليط وقالوا رجل تلقاعة وتلهاعة وفلان يتلهيع في خطبته وقالوا فلان يخطىء في جوابه ويحيل في كلامه ويناقض في خبره ولولا ان هذه الامور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الاسماء
وانا أقول انه ليس في الارض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا انق ولا ألذ في الاسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الاعراب الفصحاء العقلاء والعلماء البلغاء وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا الا أني ازعم ان سخيف الالفاظ مشاكل لسخيف المعاني وقد يحتاج الى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من امتاع الجزل الفخم ومن الالفاظ الشريفة الكريمة المعاني كما ان النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا وانما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط وانما الشأن في الحار جدا والبارد جدا
وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول والله لفلان أثقل من مغن وسط وأبغض من ظريف وسط
ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الاعراب فاياك وان تحكيها الا مع إعرابها ومخارج ألفاظها فانك ان غيرتها بان تلحن في اعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وكذلك اذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فاياك وأن تستعمل فيها الاعراب او ان تتخير لها لفظا حسنا او تجعل لها من فيك مخرجا سريا فان ذلك يفسد الامتاع بها ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له ويذهب استطابتهم اياها واستملاحهم لها
ثم اعلم ان اقبح اللحن لحن اصحاب التقعير والتقعيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم وأقبح من ذلك لحن الاعاريب النازلين على طرق السابلة وبقرب مجامع الاسواق ولاهل المدينة السنة ذلقة والفاظ حسنة وعبارة جيدة واللحن في عوامهم فاش وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب

واللحن من الجواري الظراف ومن الكواعب النواهد ومن الشواب الملاح ومن ذوات الخدور الغرائر أيسر وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ولكن اذا كان اللحن سجية سكان البلد وكما يستملحون اللثغاء اذا كانت حديثة السن ومقدودة مجدولة فاذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح وربما كان اسم الجارية غليم وصبية وما اشبه ذلك فاذا صارت كهلة جزلة وعجوزا شهلة وحملت اللحم وتراكم عليها الشحم وصار بنوها رجالا وبناتها نساء فما أقبح حينئذ ان يقال لها يا غليم كيف أصبحت ويا صبية كيف أمسيت ولأمر ما كنت العرب البنات فقالوا فعلت ام الفضل وقالت ام عمرو وذهبت ام حكيم نعم حتى دعاهم ذلك الى التقدم في تلك الكنى
وقد فسرنا ذلك كله في كتاب الاسماء والكنى والالقاب والانباز
وقد قال مالك بن أسماء في استملاح اللحن من بعض نسائه
( أمغطى مني على بصري للحب ... ام أنت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا )
( منطق صائب وتلحن أحيانا ... وأحلى الحديث ما كان لحنا )
وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص الى حبات القلوب والى إصابة عيون المعاني ويقولون أصاب الهدف اذا أصاب الحق في الجملة ويقولون قرطس فلان وأصاب القرطاس اذا كان أجود اصابة من الاول فاذا قالوا رمى فاصاب الغرة وأصاب عين القرطاس فهو الذي ليس فوقه أحد ومن ذلك قولهم فلان يفل المحز ويصيب المفصل ويضع الهناء مواضع النقب وقال زرارة بن جزء حين أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتكلم عنده ورفع حاجته اليه
( أتيت أبا حفص ولا يستطيعه ... من الناس الا كالسنان طرير )
( فوفقني الرحمن لما لقيته ... وللباب من دون الخصوم صرير )
( قروم غيارى عند باب ممنع ... تنازع ملكا يهتدي ويجور )
( فقلت له قولا أصاب فؤاده ... وبعض كلام القائلين غرور )
وفي شبيه ذلك يقول عبد الرحمن بن حسان حيث يقول

( رجال أصحاء الجلود من الخنا ... وألسنة معروفة أين تذهب )
وفي اصابة فص الشيء وعينه يقول ذو الرمة في مديح بلال بن أبي بردة الاشعري
( تناخي عند خير فتى يمان ... اذا النكباء عارضت الشمالا )
( وخيرهم مآثر أهل بيت ... وأكرمهم وإن كرموا فعالا )
( وأبعدهم مسافة غور عقل ... إذا ما الأمر في الشبهات عالا )
( ولبس بين أقوام فكل ... أعد له الشغازب والمحالا )
( وكلهم ألد له كظاظ ... أعد لكل حال القوم حالا )
( فصلت بحكمة فأصبت منها ... فصوص الحق فانفصل انفصالا )
وكان ابو سعيد الراي وهو شرشير المدني يعيب أبا حنيفة فقال الشاعر
( عندي مسائل لا شرشير يحسنها ... عند السؤال ولا أصحاب شرشير )
( ولا يصيب فصوص الحق تعلمه ... إلا حنيفية كوفية الدور )
ومما قالوا في الايجاز وبلوغ المعاني بالالفاظ اليسيرة قال ثابت بن قطنة
( مازلت بعدك في هم يجيش به ... صدري وفي نصب قد كاد يبليني )
( إني تذكرت قتلى لو شهدتهم ... في غمرة الموت لم يصلوا بها دوني )
( لا أكثر القول فيما يهضبون به ... من الكلام قليل منه يكفيني )
وقال رجل من طيء ومدح كلام رجل فقال هذا كلام يكتفي بأولاه ويشتفي بآخره وقال ابو وجرة السعدي من سعد بن بكر يصف كلام رجل
( يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت اذا طال النضال مصيب )
ومن كلامهم الموجز في أشعارهم قول العكلي في صفة قوس
( في كفه معطية منوع ... موثقة صابرة جزوع )
وقال الاخر ووصف سهم رام أصاب حمارا فقال
( حتى نجا من جوفه ومانجا ... )
وقال الآخر وهويصف ذئبا
( أطلس يخفي شخصه غبارة ... في شدقه شفرته وناره )
( وهو الخبيث عينه فراره ... بهم بنى محارب مزدارة )

ووصف الآخر نا قة فقال خرقاء إلا أنها صناع
وقال الآخر ووصف سهما صاردا
( ألقى على مفطوحا ... غادر داء ونجا صحيحا )
وقال الآخر
( إنك يا ابن جعفر لا تفلح ... الليل أخفى والنهار أفضح )
وقالوا في المثل الليل أخفى للويل
وقال رؤبة يصف حمارا
( حشرج في الجوف سحيلا أو سهق ... حتى يقال ناهق وما نهق )
وقال بعض ولد العباس بن مرداس السلمى في فرس أبي الاعور السلمى
( جاء كلمح البرق جاش ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره )
فيما يمس الارض منه حافرة
وقال الآخر
( إن سرك الأهون فابدأ بالأشد )
وقال العجاج
( يمكن السيف إذا الرمح انأطر ... من هامة الليث إذا الليث هتر )
( كجمل البحر إذا خاض جسر ... غوارب اليم اذا اليم هدر )
( حتى يقال جاسر وما جسر ... )
وقال الآخر
( يا دار قد غيرها بلاها ... كأنما بقلم محاها )
( أخر بها عمران من بناها ... وكر ممساها على مغناها )
( وطفقت سحابة تغشاها ... تبكي على عراصها عيناها )
قوله أخر بها عمران من بناها يقول عمرها بالخراب وأصل العمران مأخوذ من العمر وهو البقاء فاذا بقي الرجل في داره فقد عمرها فيقول ان مدة بقائه فيها أبلت منها لان الايام مؤثرة في الاشياء بالنقص والبلاء فلما بقي الخراب بها وقام مقام العمران في غيرها سمي بالعمران
وقال غيره
( يا عجل الرحمن بالعذاب ... لعامرات البيت بالخراب )
يعني الفأر يقول هذا عمرانها كما يقول الرجل ما نرى من خيرك

ورفدك الا ما يبلغنا من خطبك علينا وفتك في أعضادنا وقال الله عزوجل ( هذا نزلهم يوم الدين ) والعذاب لا يكون نزلا ولكنه لما أقام العذاب لهم في موضع النعيم لغيرهم سمي باسمه
وقال الآخر
( فقلت أطعمني عمير تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا )
والتمر لا يكون كهرة وزبرا ولكنه على ذا وقال الله عز و جل ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) وليس في الجنة بكرة ولا عشي ولكن على مقدار البكر والعشيات وعلى هذا قول الله عز و جل ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ) والخزنة الحفظة وجهنم لا يضيع منها شيء فيحفظ ولا يختار دخولها انسان فيمنع منها ولكن لما قامت الملائكة مقام الحافظ الخازن سميت به
وقال أبو عمرو بن العلاء اجتمع ثلاثة من الرواة فقال لهم قائل أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز فقال أحدهم قول حميد بن ثور الهلالي
( وحسبك داء أن تصح وتسلما ... )
ولعل حميدا أخذه عن النمر بن تولب قال النمر
( يحب الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة يفعل )
وقال أبو العتاهية أسرع في نقض أمر تمامه
ذهب الى كلام الاول كل ما أقام شخص وكل ما ازداد نقص ولو كان الناس يميتهم الداء إذا لأعاشهم الدواء
وقال الثاني من الرواة الثلاثة بل قول أبي خراش الهذلي
( نوكل بالأدنى وإن حل ما يمضي ... )
وقال الثالث بل قول أبي ذؤيب الهذلي
( وإذا ترد إلى قليل تقنع ... )
فقال قائل هذا من مفاخر هذيل ان يكون ثلاثة من الرواة لم يصيبوا في جميع أشعار العرب إلا ثلاثة أنصاف إثنان منها لهذيل وحدها فقيل لهذا القائل إنما كان الشرط ان يأتوا بثلاثة أنصاف مستغنيات بأنفسها والنصف الذي لأبي ذؤيب لا يستغني بنفسه ولا يفهم السامع معنى هذا النصف حتى يكون موصولا بالنصف الاول لانك إذا أنشدت رجلا لم يسمع بالنصف الاول

وسمع وإذا ترد الى قليل تقنع قال ومن هذه التي ترد الى قليل فتقنع وليس المضمن كالمطلق وليس هذا النصف مما رواه هذا العالم وانما الرواية قوله
( والدهر ليس بمعتب من يجزع ... )
ومما مدحوا به الايجاز والكلام الذي كالوحي والاشارة قول أبي دؤاد ابن جرير الايادي
( يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء )
فمدح كما ترى الاطالة في موضعها والحذف في موضعه
ومما يدل على شغفهم وكلفهم وشدة حبهم للفهم والافهام قول الاسدي في صفة كلام رجل نعت له موضعا من تلك السباسب التي لا أمارة فيها بأقل اللفظ وأوجزه فوصف أيجاز الناعت وسرعة فهم المنعوت له فقال
( بضربة نعت لم تعد غير أنني ... عقول لأوصاف الرجال ذكورها )
وهو كقولهم لابن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول ولسان سؤول وقد قال الراجز
( ومهمهين فدفدين مرتين ... جبتهما بالنعت لا بالنعتين )
وقالوا في التحذير من ميسم الشعر ومن شدة وقع اللسان ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجو قال امرؤ القيس بن حجر
( ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد )
وقال طرفة
( بحسام سيفك او لسانك والكلم ... الأصيل كأرغب الكلم )
قال وأنشدني محمد بن زياد
( لحوت شماسا كما تلحى العصي ... سبا لو أن السب يدمي لدمي )
( من نفر كلهم نكس دني ... محامد الرذل مشاتيم السري )
( مخابط العكم مواديع المطي ... متارك الرفيق بالخرق النطي )
وانشد محمد بن زياد
( تمنى أبو العفاق عندي هجمة ... تسهل مأوى ليلها بالكلاكل )
( ولا عقل عندي غير طعن نوافز ... وضرب كأشداق الغصال الهوادل )

( وسب يود المرء لو مات قبله ... كصدع الصفا فلقته بالمعلول )
وقال طرفة
( رأيت القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها ان تولجها الإبر )
وقال الأخطل
( حتى أقروا وهم مني على مضض ... والقول ينفذ مالا تنفذ الإبر )
وقال العماني
( إذ هن في الريط وفي الموادع ... ترمى اليهن كبذر الزارع )
وقالوا الحرب أولها شكوى وأوسطها نجوى واخرها بلوى وكتب نصر بن سيار الى ابن هبيرة أيام تحرك أمير السواد بخراسان
( أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك ان يكون له اضطرام )
( فان النار بالعودين تذكى ... وان الحرب أولها كلام )
( فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام )
( فان كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام )
وقال بعض المولدين
( إذا نلت العطية بعد مطل ... فلا كانت وان كانت جزيله )
( وسقيا للعطية ثم سقيا ... اذا سهلت وان كانت قليله )
( وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفيه دليله )
( ومن عقل الكريم اذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله )
( اذا وضعوا مكاذبهم عليه ... وان كذبوا فليس لهن حيله )
وقالوا مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها ومما قالوا في صفة اللسان قول الاسدي أنشدنيها ابن الأعرابي
( وأصبحت أعددت للنائبات ... عرضا بريئا وعضبا صقيلا )
( ووقع لسان كحد السنان ... ورمحا طويل القناة عسولا )
وقال الأعشى
( أدافع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانا كمقراض الخفاجي ملحبا )
وقال ابن هرمة
( قل للذي ظل ذا لونين يأكلني ... لقد خلوت بلحم عارم البشم )

( إياك لا ألزمن لحييك من لجم ... نكلا ينكل قراصا من اللجم )
( إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله ... كفاي لكن لساني صائغ الكلم )
وقال الراجز
( إني بغيت الشعر وابتغاني ... حتى وجدت الشعر في مكاني )
( في عيبة مفتاحها لساني ... )
وأنشد
( إني وإن كان إزاري خلقا ... وبردتاي سملا قد أخلقا )
( قد جعل الله لساني مطلقا ... )
بسم الله الرحمن الرحيم

معنى البلاغة
قال أبو عثمان والعتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه بالكلام الملحون والمعدول عن جهته والمصروف من حقه انه محكوم له بالبلاغة كيف كان بعد ان نكون قد فهمنا عنه معنى كلام النبطي الذي قيل له لم اشتريت هذه الأتان قال أركبها وتلد لي وقد علمنا ان معناه كان صحيحا وقد فهمنا قول الشيخ الفارسي حين قال لاهل مجلسه ما من شر من دين وانه قال حين قيل له ولم ذاك يا أبا فلان قال من جرى يتعلقون وما نشك انه قد ذهب مذهبا وانه كما قال معنى قول أبي الجهير الخرساني النخاس حين قال له الحجاج أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان قال شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مداينها وكما تجيء تكون قال الحجاج ما تقول ويلك فقال بعض من قد كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك يقول شركاؤنا بالاهواز والمدائن يبعثون الينا بهذه الدواب فنحن نبيعها على وجوهها وقلت لخادم لي في اي صناعة أسلم هذا الغلام قال أصحاب سند نعال يريد في اصحاب النعال السندية وكذلك قول الكاتب المغلاق للكاتب الذي دونه اكتب لي قل حطين وريحني منه
فمن زعم ان البلاغة ان يكون السامع يفهم معنى القائل جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والاغلاق والابانة والملحون والمعرب كله سواء وكله بيانا وكيف يكون ذلك كله بيانا ولولا طول مخالطة السامع للعجم وسماعه

للفاسد من الكلام لما عرفه ونحن لم نفهم عنه الا للنقص الذي فينا وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لا يستدلون على معاني هؤلاء بكلامهم كما لا يعرفون رطانة الرومي والصقلبي وان كان هذا الاسم انما يستحقونه بأنا نفهم عنهم كثيرا من حوائجهم فنحن قد نفهم من حمحمة الفرس كثيرا من حاجاته ونفهم بضغاء السنور كثيرا من ارادته وكذلك الكلب والحمار والصبي الرضيع وانما عنى العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجرى كلام الفصحاء وأصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منها
مكرة أخاك لا بطل وإذا عز أخاك فهن
ومن لم يفهم هذا لم يفهم قولهم ذهبت الى أبو زيد ورأيت أبي عمرو ومتى وجد النحويون اعرابيا يفهم هذا وأشباهه بهرجوه ولم يسمعوا منه لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان لأن تلك اللغة انما انقادت واستوت واطردت وتكاملت بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك الجيرة ولفقد الخطأ من جميع الامم ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بون بعيد على انه قد كان وضع منزله في اخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين
وزعم أصحابنا البصريون عن ابي عمرو بن العلاء انه قال لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج وكان ما زعموا لا يبرئهما من اللحن وزعم أبو العاصي انه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه وفيما يجري بينه وبين الناس إلا ما تفقده من أبي زيد النحوي ومن ابي سعيد المعلم
وقد روى أصحابنا ان رجلا من البلدتين قال لاعرابي كيف أهلك قالها بكسر اللام قال صلبا لانه أجابه على فهمه ولم يعلم انه أراد المسألة عن أهله وعياله وسمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري اني عثرت البارحة بكتاب وقد التقطته وهو عندي وقد ذكروا ان فيه شعرا فان أردته وهبته لك قال ابن بشير اريده ان كان مقيدا قال والله ما أدري أكان مقيدا او مغلولا ولو عرف التقييد لم يلتفت الى روايته وحكى الكسائي انه قال لغلام بالبادية من خلقك وجزم القاف فلم يدر ما قال

ولم يجبه فرد عليه السؤال فقال الغلام لعلك تريد من خلقك وكان بعض الاعراب اذا سمع رجلا يقول نعم في الجواب قال نعم وشاء لان لغته نعم وقيل لعمر بن لجاء قل إنا من المجرمين منتقمون قال إنا من المجرمون منتقمين وأنشد الكسائي كلاما دار بينه وبين بعض فتيان البادية فقال
( عجبا ما عجب أعجبني ... من غلام حكمي أصلا )
( قلت هل أحسنت ركبا نزلوا ... حضنا ما دونه قال هلا )
( قلت بين ما هلا هل تزلوا ... قال حوبا ثم ولى عجلا )
( لست أدري عندها ما قال لي ... أنعم ما قال لي أم قال لا )
( تلك منه لغة تعجبني ... زادت القلب خبالا خبلا )
قال أبو الحسن قال مولى زياد لزياد أهدوا لنا همار وهش قال أي شيء تقول ويلك قال أهدوا لنا ايرا يريد أهدوا لنا عيرا قال زياد ويلك الاول خير وقال الشاعر يذكر جارية له لكناء
( أول ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الانثى وتأنيث الذكر )
( والسوأة السواء في ذكر القمر ... )
فزياد قد فهم عن مولاه وصاحب الجارية قد فهم عن جاريته ولكنهما لم يفهما عنهما من إفهامها لهما ولكنهما لما طال مقامهما في الموضع الذي يكثر فيه سماعهما لهذا الضرب صارا يفهمان هذا الضرب من الكلام

ذكر ما قالوا في مديح اللسان بالشعر الموزون واللفظ المنثور
ما جاء في الاثر وصح به الخبر
قال الشاعر
( أزى الناس في الاخلاق أهل تخلق ... وأخبارهم شتى فعرف ومنكر )
( قريبا تدانيهم اذا ما رأيتهم ... ومختلفا ما بينهم حين تخبر )
( فلا تحمدن الدهر ظاهر صفحة ... من المرء ما لمم تبل ما ليس يظهر )
( فما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور )
( وما الزين في ثوب تراه وإنما ... يزين الفتى مخبوره حين يخبر )
( فان طرة راقتك منهم فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر )

وقال سويد بن أبي كاهل في ذلك
( ودعتني برقاها انها ... تنزل الأعصم من رأس اليفع )
( تسمع الحداث قولا حسنا ... لو أرادوا غيره لم يستطع )
( ولسانا صيرفيا صارما ... كحسام السيف ما مس قطع )
وقال جرير
( وليس لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا )
وقال الاخر
( وجرح السيف تدمله فيبرى ... ويبقى الدهر ما جرح اللسان )
وقال الاخر
( أبا ضبيعة لا تعجل بسيئة ... الى ابن عمك واذكره باحسان )
( إما تراني وأثوابي مقاربة ... ليست بخز ولا من نسج كتان )
( فان في المجد هماتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير لحان )
وفيما مدحوا به الاعرابي اذا كان أديبا أنشدني ابن أبي خزيمة واسمه أسود
( ألا زعمت عفراء بالشام أنني ... غلام جوار لا غلام حروب )
( وإني لاهدى بالأوانس كالدمى ... وإني بأطراف القنا للعوب )
( وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة اعرابيتي لأديب )
وقال ابن هرمة
( لله درك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام )
( هش أذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام )
( فاذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام )
وقال كعب بن سعد الغنوي
( حبيب الى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو أديب )
( اذا ما تراآه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب )
وقال الحارثي
( وتعلم أنى ماجد وتروعها ... بقية أعرابية في مهاجر )
وقال الآخرلآخر

( وان امرأ في الناس يعطي ظلامة ... ويمنع نصف الحق منه لراضع )
( أألموت يخشى اثكل الله أمه ... أم العيش يرجو نفعه وهو ضائع )
( ويطعم ما لم يندفع في مريثه ... ويمسح أعلى بطنه وهو جائع )
( وأن العقول فاعلمن أسنة ... حداد النواحي ارهفتها المواقع )
ويقول كأن لسانه لسان ثور وحدثني من سمع أعرابيا مدح رجلا برقة اللسان فقال كان والله لسانه أرق من ورقة وألين من سرقة وقال النبي لحسان بن ثابت مابقي من لسانك فاخرج لسانه حتى ضرب بطرفه أرنبته ثم قال رالله ما يسرني به مقول من معد والله لو وضعته على صخر لفلقه او على شعر لحلقه قال وسمعت اعرابيا يصف لسان رجل فقال كان يشول بلسانه شولان البروق ويتخلل به تخلل الحية وأظن هذا الاعرابي أبا وجيه العكلي
ووصف أعرابي رجلا فقال أتيناه فاخرج لسانه كأنه مخراق لاعب وقال العباس بن عبد المطلب للنبي يا رسول الله فيم الجمال قال في اللسان وكان مجاشع بن درام خطيبا سليطا وكان نهشل بكيئا منزورا فلما خرجا من عند بعض الملوك عذله مجاشع في تركه الكلام فقال له نهشل اني والله لا أحسن تكذابك ولا تأثامك تشول بلسانك شولان البروق
وقالوا على جميع الخلق مرتبة الملائكة ثم الانس ثم الجن وإنما صار لهؤلاء المزية على جميع الخلق بالعقل وبالاستطاعة على التصرف وبالمنطق
وقال خالد بن صفوان ما الانسان لولا اللسان الا صورة ممثلة او بهيمة مهملة وقال رجل لخالد بن صفوان ما لي اذا رأيتكم تتذاكرون الاخبار وتتدارسون الآثار وتتناشدون الاشعار وقع علي النوم قال لانك حمار في مسلاخ انسان وقال صاحب المنطق حد الانسان الحي الناطق المبين وقال الاعور الشني
( وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته او نقصه في التكلم )
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم تبق الا صورة اللحم والدم )
ولما دخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر زرى عليه للذي رأى من دمامته وقصره وقلته فقال النعمان تسمع بالمعيدي لا ان تراه فقال أبيت

اللعن ان الرجال لا تكال بالفقزان ولا توزن بميزان وليست بمسوك يستقى بها وانما المرء بأصغريه بقلبه ولسانه ان صال صال بجنان وان قال قال ببيان واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي فان كان ذلك كذلك فقد أقروا ان نهدا من معد
وكان يقال عقل المرء مدفون بلسانه

باب في ذكر اللسان
وقال أبو الحسن قال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه فاذا اراد الكلام تفكر فان كان له قال وان كان عليه سكت وقلب الجاهل من وراء لسانه فان هم بالكلام تكلم به له او عليه
وقال ابو عبيدة قال ابو الوجيه حدثني الفرزدق قال كنا في ضيافة معاوية بن ابي سفيان ومعنا كعب بن جعيل التغلبي فقال له يزيد ان ابن حسان - يريد عبد الرحمن - قد فضحنا فاهج الانصار قال أرادي انت الى الاشراك بعد الاسلام لا أهجو قوما نصروا رسول الله ولكني أدلك على غلام منا نصراني كأن لسانه لسان ثور يعني الاخطل
وقال سعد بن أبي وقاص لعمر ابنه - حين نطق مع القوم فبذهم وقد كانوا كلموه في الرضا عنه - هذا الذي أغضبني عليه اني سمعت رسول الله يقول ( يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنهم كما تلحس الارض البقرة بلسانها )
وقال معاوية لعمرو بن العاص يا عمرو ان أهل العراق قد أكرهوا عليا على أبي موسى وأنا واهل الشام راضون بك وقد ضم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي فأجد الحز وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله
والعجب من قول ابن الزبير للاعراب سلاحكم رث وحديثكم غث وكيف يكون هذا وقد ذكروا أنه أحسن الناس حديثا وان أبا نضرة وعبد الله ابن ابي بكر انما كانا يحكيانه فلا أدري الا ان يكون حسن حديثه هو الذي ألقى الحسد بينه وبين كل حسن الحديث
وقد ذكروا ان خالد بن صفوان تكلم في بعض الأمر فأجابه رجل من أهل المدينة بكلام لم يظن خالد ان الكلام كان عنده فلما طال بهما المجلس كان خالد عرض له ببعض الامر فقال المدني يا أبا صفوان ما من ذنب الا اتفاق

الصناعتين ذكر ذلك الاصمعي قال فضال الازرق قال رجل من بني منقر تكلم خالد بن صفوان في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله واذا اعرابي في بت ما في رجليه حذاء فأجابه بكلام وددت والله أني كنت مت وان ذلك لم يكن فلما رأى خالد ما نزل بي قال كيف نجاريهم وانما نحكيهم وكيف نسابقهم وانما نجري على ما سبق الينا من أعراقهم وليفرخ روعك فانه من مقاعس ومقاعس لك فقلت يا أبا صفوان والله ما ألومك على الأولى ولا أدع حمدك على الاخرى
قال ابو اليقظان قال عمر بن عبد العزيز ما كلمني رجل من بني أسد الا تمنيت ان يمد له في حجته حتى يكثر كلامه فأسمعه
وقال يونس ليس في بني أسد الا خطيب او شاعر او قائف او زاجر اوكاهن او فارس قال وليس في هذيل الا شاعر او رام او شديد العدو
الترجمان بن هزيم بن عدي بن ابي طحمة قال دعى رقبة بن مصقلة - او كرب بن رقبة - الى مجلس ليتكلم فيه فراى مكان اعرابي في شملة فأنكر موضعه فسأل الذي عن يمينه عنه فخبره انه الذي أعدوه لجوابه فنهض مسرعا لا يلوي على شيء كراهة ان يجمع بين الديباجتين فيتضع عند الجميع
وقال خلاد بن يزيد لم يكن أحد بعد أبي نضرة احسن حديثا من مسلم بن قتيبة قال وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول احذفوا الحديث كما يحذفه مسلم بن قتيبة
ويزعمون انه لم يروا محدثا قط صاحب آثار كان أجود حذفا وأحسن اختصار للحديث من سفيان بن عيينه سألوه مرة عن قول طاوس في زكاة الجراد فقال ابنه عنه زكاته أخذه
وباب آخر وكانوا يمدحون شدة العارضة وقوة المسنة وظهور الحجة وثبات الجنان وكثرة الريق والعلو عن الخصم ويهجون بخلاف ذلك قال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يعش ... حميدا ولم يشهد حلالا ولا عطرا )

قال ابو زييد الطائي
( وخطيب اذا تموت الأوجه ... يوما في مأقط مشهود )
وقال نافع بن خليفة الغنوي
( وخصم لدى باب الامير كأنهم ... قروم فشافيها الزوائر والهدر )
( دلفت لهم دون المنى بملمة ... من الدر في أعقاب درتها شذر )
( اذا القوم قالوا أدن منها وجدتها ... مطبقة يهماء ليس لها خصر )
وقال الأسلع بن قطاف الطهوي
( فداء لقومي كل معشر جارم ... طريد ومخذول بماجر مسلم )
( هم أفحموا الخصم الذي يستفيدني ... وهم قصموا حجلي وهم حقنوا دمي )
( بأيد يفرجن المضيق وألسن ... سلاط وجمع ذي زهاء عرمرم )
( اذا شئت لم تعدم لدى الباب منهم ... جميل المحيا واضحا غير توأم )
وقال التميمي في ذلك
( أما رأيت الألسن السلاطا ... والجاه والأقدام والنشاطا )
( ان الندى حيث ترى الضغاطا ... )
ذهب في البيت الأخير الى قول الشاعر
( يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء )
والى قول الآخر
( يرفض عن بيت الفقير ضيوفه ... وترى الغنى يهدى لك الزوارا )
وأنشد في المعنى الأول
( وخطيب قوم قدموه أمامهم ... ثقة به متخمط تياح )
( جاوبت خطبته فظل كأنه ... لما خطبت مملح بملاح )
وأنشد أيضا
( أرقت لضوء برق في نشاص ... تلألأ في مملاة غصاص )
( لواقح دلح بالماء سحم ... تمج الغيث من خلل الخصاص )
( سل الخطباء هل سبحوا كسبحي ... بحور القول او غاصوا مغاصي )
( لساني بالنثير ويالقوافي ... وبالأسجاع أمهر في الغواص )
( من الحوت الذي في لج بحر ... يجيد الغوص في لجج المغاص )

( لعمرك إنني لاعف نفسي ... وأستر بالتكرم من خصاص )
وأنشد لرجل من بني ناشب بن سليمان بن سلامة بن سعد بن مالك بن ثعلبة
( لنا قمر السماء وكل نجم ... يضيء لنا اذا القمران غارا )
( ومن يفخر بغير أبي نزار ... فليس بأول الخطباء جارا )
وأنشد للأقرع
( إني امرؤ لا أقيل الخصم عثرته ... عند الأمير اذا ما خصمه طلعا )
( ينير وجهي إذا جد الخصام بنا ... ووجه خصمي تراه الدهر ملتفعا )
وأنشد
( تراه بنصري في الحفيظة واثقا ... وان صد عني العين منه وحاجبه )
( وان خطرت أيدي الكماة وجدتني ... نصورا اذا ما استيبس الريق عاصبه )
وقال ابن احمر وذكر الريق والاعتصام به
( هذا الثناء واجدر أن أصاحبه ... وقد يدوم ريق الطامع الأمل )
وقال الزبير بن العوام وهو يرقص ابنه عروة
( أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصديق )
( ألذه كما ألذ ريقي ... )
وقالت امرأة من بني أسد
( ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد )
( فمن كان يعيا بالجواب فانه ... أبو معقل لا حجر عنه ولا صدد )
( أثاروا بصحراء الثوية قبره ... وما كنت أخشى ان تناءى به البلد )
وقال أوس بن حجر في فضالة بن كلدة
( أبا دليجة من يوصى بأرملة ... أم من لأشعث ذي هدمين طملال )
( أم من يكون خطيب القوم إن حفلوا ... لدى الملوك أولي كيد وأقوال )
وقال أيضا في فضالة بن كلدة
( ألهفا على حسن آلائه ... على الجابر الحي والحارب )
( ورقبته حتمات الملوك ... بين السرادق والحاجب )
( ويكفي المقالة أهل الرجال ... غير معيب ولا عائب )
وأنشد أيضا

( وخصم غضاب ينغضون رؤوسهم ... أولي قدم في الشغب صهب سبالها )
( ضربت لهم أبط الشمال فأصبحت ... يرد غواة آخرين نكالها )
وقال شتيم بن خويلد
( وقلت لسيدنا يا حليم ... إنك لم تأس أسوا رفيقا )
( أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتبقى فريقا )
( زجرت بها ليلة كلها ... فجئت بها مؤيدا خنفقيقا )
وأنشد لآدم مولى بلعنبر يقولها لابن له
( يا بأبي انت ويا فوق بأب ... يا بأبي خصيك من خصي وزب )
( أنت الحبيب وكذا قول المحب ... جنبك الله معاريض الوصب )
( حتى تفيد وتداوي ذا الجرب ... وذا الجنون من سعال وكلب )
( والحدب حتى يستقيم ذو الحدب ... وتحمل الشاعر في اليوم العصب )
( على مباهير كثيرات التعب ... وان أراد جدل صعب أرب )
( خصومة تنقب أوساط الركب ... أطلعته من رتب الى رتب )
( حتى ترى الأبصار أمثال الشهب ... ترمي بها أشوس ملحاح كلب )
( مجرب الشدات ميمون مذب ... )
وقالت ابنة وثيمة ترثي أباها وثيمة بن عثمان
( الواهب المال التلا ... دلنا ويكفينا العظيمة )
( ويكون مدرهنا إذا ... نزلت مجلحة عظيمة )
( وآحمر افاق السما ء ... ولم تقع في الارض ديمه )
( وتعذر الآكال حتى ... كان أحمدها الهشيمة )
( لا ثلة ترعى ولا ... إبل ولا بقر مسيمه )
( ألفيته مأوى الأرامل ... والمدفعه اليتيمه )
( والدافع الخصم الألد ... اذا تفوضح في الخصومه )
( بلسان لقمان بن عاد ... وفصل خطبته الحكيمه )
( ألجمتهم بعد التدافع ... والتجاذب في الحكومه )
وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الاكبر والأصغر ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم وفي اللسان وفي الحلم وهذان غير

لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقول المفسرون ولارتفاع قدره وعظم شأنه قال النمر بن تولب
( لقيم بن لقمان من اخته ... فكان بن أخت له وابنما )
( ليالي حمق فاستحصنت ... عليه فغر بها مظلما )
( فغر بها رجل محكم ... فجاءت به رجلا محكما )
وذلك ان أخت لقمان قالت لامرأة لقمان إني امرأة محمقة ولقمان رجل منجب محكم وأنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك ففعلت فباتت في بيت امرأة لقمان فوقع عليها فأحبلها بلقيم فلذلك قال النمر بن تولب ما قال والمرأة اذا ولدت الحمقى فهي محمقة ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها غيرها اكياسا
وقالت امرأة ذات بنات
( وما أبالي ان أكون محمقه ... اذا رأيت خصية معلقه )
وقال الآخر
( أزرى بسعيك ان كنت امرا حمقا ... من نسل ضاوية الاعراق محماق )
ولبعضهم في البنات قالت احدى القوابل
( أيا سحاب طرقي بخير ... وطرقي بخصية وأير )
( ولا ترينا طرف البظير ... )
وقال آخر في انجاب الامهات وهو يخاطب بني اخوته
( عفاريتا علي وأكل مالي ... وحلما عن أناس آخرينا )
( فهلا غير عمكم ظلمتم ... اذا ما كنتم متظلمينا )
( فلو كنتم لكيسة أكاست ... وكيس الأم أكيس للبنينا )
( وكان لنا فزارة عم سوء ... وكنت له كشر بني الأخينا )
ولبغض البنات هجر أبو حمزة الضبي خيمة امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيران له حين ولدت امرأته بنتا فمر يوما بخبائها و اذاهي ترقصها وتقول
( ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا )
( غضبان ان لا نلد البنينا ... تا لله ما ذلك في أيدينا )
( وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا )
( ننبت ما قد زرعوه فينا ... )

فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها
وهذا الباب يقع في كتاب الانسان من كتاب الحيوان وفي فضل ما بين الذكر والانثى تاما وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين ولكن قد يجرى السبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطا لقارىء الكتاب لان خروجه من الباب اذ اطال لبعض العلم كان ذلك اروح على قلبه وأزيد في نشاطه ان شاء الله
وقد قال الاول في تعظيم شأن لقيم بن لقمان
( قومي اصبحيني فما صيغ الفتى حجرا ... لكن رهينة احجار وارماس )
( قومي اصبحيني فان الدهر ذو غير ... أفنى لقيما وافنى آل مرماس )
( اليوم خمر ويبد وفي غد خبر ... والدهر من بين إنعام وإيآس )
( فاشرب على حدثان الدهر مرتفقا ... لا يصحب الهم قرع السن بالكاس )
وقال ابو الطمحان القيني في ذكر لقمان
( إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألاف وأقران )
( أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان )
وقد ذكرت العرب هذه الامم البائدة والقرون السالفة ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل جرهم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور وقيل بن عتر وذي جدن ويقال في بني الناصور ان أصلهم من الروم
فأما ثمود فقد خبر الله عز و جل عنهم فقال ( وثمود فما أبقى ) وقال ( فهل ترى لهم من باقية ) انا أعجب من مسلم يصدق بالقران ويزعم ان في قبائل العرب من بقايا ثمود وكان أبو عبيدة يتأول قوله ( وثمود فما أبقى ) ان ذلك انما وقع على الاكثر وعلى الجمهور الاكبر وهذا التأويل أخرجه من أبي عبيدة سوء الرأي في القوم وليس له ان يجيء الى خبر عام مرسل غير مقيد وخبر مطلق غير مستثنى منه فيجعله خاصا كالمستثنى منه وأي شيء بقي لطاعن او متأول بعد قوله ( فهل ترى لهم من باقية ) فكيف يقول ذلك اذا كنا نحن قد نرى منهم في كل حي باقية معاذ الله من ذلك ورووا أن الحجاج قال يوما على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود وقد قال الله تبارك وتعالى ( وثمود فما أبقى )

فأما الامم البائدة من العجم مثل كنعان ويونان وأشباه ذلك فكثير ولكن العجم ليست لها عناية بحفظ شأن الاموات ولا الاحياء
وقال المسيب بن علس في ذكر لقمان
( وإليك أعملت المطية من ... سهل العراق وأنت بالقفر )
( أنت الرئيس اذا هم نزلوا ... وتوجهوا كالاسد والنمر )
( لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة القدر )
( ولأنت أجود بالعطاء من الريان ... لما جاد بالقطر )
( ولأنت أشجع من أسامة اذ ... نقع الصراخ ولج في الذعر )
( ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عي بالامر )
وقال لبيد بن ربيعة الجعفري
( وأخلف قسا ليتني ولو انني ... وأعيي على لقمان حكم التدبر )
( فان تسألينا كيف نحن فاننا ... عصافير من هذا الانام المسحر )
وقال امرؤ القيس
( أرانا موضعين لامر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب )
وقال الفرزدق
( لئن حومتي صانت معد حياضها ... لقد كان لقمان بن عاد يهابها )
وقال آخر
( إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك ان يعيش فجيء بزاد )
( بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد )
( تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد )
وقال أفنون التغلبي
( لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيب قيل ولقمان وذي جدن )
وقال آخر
( ما لذة العيش والفتى للدهر ... والدهر ذو فنون )
( أهلك طسما وقبل طسم ... أهلك عادا وذا جدون )
( وأهل جاسم ومأرب ... وحي لقمان والنقون )
( واليسر للعسر والتغني ... للفقر والحي للمنون )

قال وهم وان كانوا يحبون البيان والطلاقة والتحبير والبلاغة والتخلص والرشاقة فانهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والاسهاب والاكثار لما في ذلك من التزيد والمباهاة واتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة لأن ذلك يدعو الى السلاطة والسلاطة تدعو الى البذاء وكل مراء في الارض فانما هو من نتاج الفضول ومن حصل كلامه وميزه وحاسب نفسه وخالف الاثم والذم أشفق من الضراوة وسوء العادة وخاف ثمرة العجب وهجنة القبح وما في حب السمعة من الفتنة وما في الرياء من مجانبة الاخلاص
ولقد دعا عبادة بن الصامت بالطعام بكلام ظن انه ترك فيه المحاسبة فقال أوس بن شداد انه قد ترك فيه المحاسبة فاسترجع ثم قال ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله الا مزمومة مخطومة قال ورووا عن حماد بن سلمة عن أبي حمزة عن ابراهيم قال إنما يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال وقال دع المعاذر فان أكثرها مفاجر وانما صارت المعاذر كذلك لانها داعية الى التخلص بكل شيء وقال سلام بن مطيع قال لي أيوب إياك وحفظ الحديث خوفا عليه من العجب وقال ابراهيم النخعي دع الاعتذار فانه يخالط الكذب
قالوا ونظر شاب وهو في دار ابن سيرين الى فرش في داره فقال ما بال تلك الآجرة أرفع من تلك الآجرة الاخرى فقال ابن سيرين يا ابن اخي ان فضول النظر يدعو الى فضول القول
وزعم ابراهيم بن السندي قال أخبرني من سمع عيسى بن علي يقول فضول النظر من فضول الخواطر وفضول النظر يدعو الى فضول القول وفضول القول يدعو الى فضول العمل ومن تعود فضول الكلام ثم تدارك استصلاح لسانه خرج من استكراه القول وان أبطأ أخرجه إبطاؤه الى اقبح من الفضول
قال أبو عمرو بن العلاء أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته معبد بن زرارة فلما اخرجها اليه قال لها يا بنية امسكي عليك الفضلين قالت وما الفضلان قال فضل الغلمة وفضل الكلام

وضرار بن عمرو هو الذي قال من سره بنوه ساءته نفسه وهو الذي لما قال له المنذر كيف تخلصت يوم كذا وكذا وما الذي نجاك قال تأخير الأجل واكراهي نفسي على المق الطوال
وكان اخوته قد استشالوه حتى ركب فرسه ورفع عقيرته بعكاظ فقال ألا إن خير حائل أم ألا فزوجوا الامهات وذلك انه صرع بين القنا فانشل عليه اخوته لأمه حتى أنقذوه

باب الصمت
كان اعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت فسئل عن طول صمته فقال اسمع فأعلم واسكت فأسلم وقالوا لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب وقالوا مقتل المرء بين لحييه وفكيه وأخذ ابو بكر الصديق رضي الله عنه بطرف لسانه وقال هذا الذي أوردني الموارد وقالوا ليس شيء احق بطول سجن من لسان وقالوا اللسان سبع عقور
وقال النبي ( وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم الا حصائد ألسنتهم )
وقال ابن الاعرابي عن بعض أشياخه تكلم رجل عند النبي فخطل كلامه فقال النبي ( ما اعطى العبد شرا من طلاقة اللسان )
وقال العايشي وخالد بن خداش حدثنا مهدي بن ميمون عن غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال قدمنا على رسول الله في وفد فقلنا يا رسول الله انت سيدنا وانت اطولنا علينا طولا وانت الجفنة الغراء فقال النبي ( ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فانما انا عبد الله ورسوله )
وقال خالد بن عبد الله القسري لعمر بن عبد العزيز رحمه الله من كانت الخلافة زانته فقد زنتها ومن شرفته فقد شرفتها فأنت كما قال الشاعر
( وتزيدين اطيب الطيب طيبا ... ان تمسيه اين مثلك أينا )
( واذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
قال عمر ان صاحبكم أعطى مقولا ولم يعط معقولا وقال الشاعر

( لسانك معسول ونفسك شحة ... ودون الثريا من صديقك مالكا )
وأخبرنا باسناد له ان ناسا قالوا لابن عمر ادع الله لنا بدعوات فقال اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا فقالوا لو زدتنا يا ابا عبد الرحمن قال نعوذ بالله من الاسهاب
وقال ابو الاسود الدؤلي في ذكر الاسهاب يقولها في الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة والحارث هو القباع وكان خطيبا من وجوه قريش ورجالهم وإنما سمي القباع لانه اتى بمكتل لاهل المدينة فقال ان هذا المكتل لقباع فسمى به والقباع الواسع الرأس القصير وقال الفرزدق لجرير
( وقبلك ما أعييت كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر علي حبائله )
( فأقسمت لا آتيه تسعين حجة ... ولو كسرت عنق القباع وكاهله )
قال ابو الاسود
( امير المؤمنين جزيت خيرا ... أرحنا من قباع بني المغيرة )
( بلوناه فلمناه فأعيا ... علينا ما يمر لنا مريرة )
( على ان الفتى نكح اكول ... ومسهاب مذاهبه كثيره )
وقال الشاعر
( إياك إياك المراء فانه ... الى الشر دعاء وللصرم جالب )
وقال ابو العتاهية
( والصمت اجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه )
( كل امرىء في نفسه ... اعلى وأشرف من قرينه )
وكان سهل بن هرون يقول سياسة البلاغة اشد من البلاغة كما ان التوقي على الدواء اشد من الدواء وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت وبالتحرز من زلل الكلام ومن زلل الرأي ومن الرأي الدبري والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب بعد مضي الرأي الاول وفوت استدراكه وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم وبالتقدم في ذلك اشد التقدم وقال الاحنف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفقهوا قبل ان تسودوا وكان يقول رضي الله عنه السؤدد مع السواد وأنشدوا لكثير عزة
( وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيم )

( ألوت بأصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى )
وأنشد
( إبدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك تعذر ان وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل التعليم )
قالوا وكان الاحنف أشد الناس سلطانا على نفسه وكان الحسن أترك لما نهى عنه وقال الآخر
( لا تعذراني في الإساءة انه ... شر الرجال من يسيء فيعذر )
وقال الكميت بن زيد الاسدي
( ولم يقل بعد زلة لهم ... عند المعاذير إنما حسبوا )
وأنشد الاحوص بن محمد
( قامت تخاصرني بقنتها ... خود تأطر غادة بكر )
( كل يرى ان الشباب له ... في كل مبلغ لذة عذر )
وقال جرير في فوت الرأي
( ولا يتقون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الامر إلا تدبرا )
ومدح النابغة ناسا بخلاف هذه الصفة فقال
( ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب )
وأنشد
( هفا هفوة كانت من المرء بدعة ... وما مثله عن مثلها بسليم )
( فان يك أخطا في أخيكم فربما ... أصاب التي فيها صلاح تميم )
وقال قائل عند يزيد بن عمر بن هبيرة والله ما أتى الحارث بن شريح بيوم خير قط فقال له الترجمان بن هزيم إلا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر وذهب الترجمان بن هزيم الى مثل معنى قول الشاعر
( وما خلقت بنو زمان الا ... اخيرا بعد خلق الناس طرا )
( وما فعلت بنو زمان خيرا ... ولا فعلت بنو زمان شرا )
ومن هذا الجنس من الاحاديث - وهو يدخل في باب الملح - قال الاصمعي وصلت بالعلم ونلت بالملح قال رجل مرة أبي الذي قاد الجيوش وفتح الفتوح وخرج على الملوك واغتصب المنابر فقال له رجل من القوم لا

جرم لقد أسر وقتل وصلب فقال له المفتخر بأبيه دعني من أسر أبي وقتله وصلبه أبوك أنت حدث نفسه بشيء من هذا قط
قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم وأنا اوصيك ان لا تدع التماس البيان والتبيين ان ظننت ان لك فيهما طبيعة وانهما يناسبانك بعض المناسبة ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الاهمال على قوة القريحة ويستبد بها سوء العادة وان كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة وبقوة المنة يوم الحفل فلا تقصر في التماس اعلاها سورة وأرفعها في البيان منزلة ولا يقطعنك تهييب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها والاحاديث المتناولة على أقبح مخارجها
وكيف تطيعهم بهذه الروايات المعدولة والاخبار المدخولة وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قبل أنفسهم وقد سمعت الله تبارك وتعالى ذكر داود النبي صلوات الله عليه فقال ( واذكر عبدنا داود ذا الأيدي انه أواب ) - الى قوله ( وفصل الخطاب ) فجمع له بالحكمة البراعة في العقل والرجاحة في الحلم والاتساع في العلم والصواب في الحكم وجمع له بفصل الخطاب تفصيل المجمل وتخليص الملتبس والبصر بالحز في موضع الحز والحسم في موصع الحسم وذكر رسول الله شعيبا النبي عليه السلام فقال كان شعيب خطيب الانبياء وذلك عند بعض ما حكاه الله عنه في كتابه وحلاه لاسماع عباده فكيف تهاب منزلة الخطباء وداود عليه السلام سلفك وشعيب أمامك مع ما تلونا عليك في صدر هذا الكتاب من القران الحكيم والاي الكريم وهذه خطب رسول الله مدونة محفوظة ومخلدة مشهورة وهذه خطب ابي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقد كان لرسول الله شعراء ينافحون عنه وعن اصحابه بأمره وكان ثابت بن قيس بن الشماس الانصاري خطيب رسول الله لا يدفع ذلك أحد
فأما ما ذكرتم من الاسهاب والتكلف والخطل والتزيد فانما يخرج الى الاسهاب المتكلف والى الخطل المتزيد فاما أرباب الكلام ورؤساء أهل البيان والمطبوعون المعاودون وأصحاب التحصيل والمحاسبة والتوقي

والشفقة والذين يتكلمون في صلاح ذات البين وفي اطفاء نائرة او في حمالة او على منبر جماعة او في عقد املاك بين مسلم ومسلمة فكيف يكون كلام هولاء يدعون الى السلاطة والمراء والى الهذر والبذاء والى النفج والرياء ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما اكثر الناس فيما ذكرتم فلم خطب صعصعة ابن صوحان عند علي بن أبي طالب وقد كان ينبغي للحسن البصري ان يكون أحق التابعين بما ذكرتمم
قال الاصمعي قيل لسعيد بن المسيب ههنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر قال نسكوا نسكا أعجميا
وزعمتم ان رسول الله قال ( شعبتان من شعب النفاق البذاء والبيان وشعبتان من شعب الايمان الحياء والعي )
ونحن نعوذ بالله من العي ونعوذ بالله ان يكون القران يحث على البيان ورسول الله يحث على العي ونعوذ بالله ان يجمع رسول الله بين البذاء والبيان وانما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن المقدار فالعي مذموم والخطل مذموم ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي
وههنا روايات كثيرة مدخولة وأحاديث معلولة ورووا ان رجلا مدح الحياء عند الاحنف وان الاحنف قال يم يعود ذلك ضعفا والخير لا يكون سببا للشر ولكنا نقول ان الحياء اسم لمقدار من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمه ما احببت وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير فالسرف اسم لما فضل عن ذلك المقدار وللحزم مقدار فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار وللاقتصاد مقدار فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار وللشجاعة مقدار فالتهور والخور اسم لما جاوز ذلك المقدار
وهذه الاحاديث ليست لعامتها أسانيد متصلة فان وجدتها متصلة لم تجدها محمودة واكثرها جاءت مطلقة ليس لها حامل محمود ولا مذموم فاذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن
فان اردت ان تتكلف هذه الصناعة وتنسب الى هذا الادب فقرضت قصيدة او حبرت خطبة او ألفت رسالة فاياك ان تدعوك ثقتك بنفسك

ويدعوك عجبك بثمرة عقلك الى ان تنتحله وتدعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل او أشعار اوخطب فان رأيت الاسماع تصغي له والعيون تحدج اليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله فان كان ذلك في ابتداء أمرك وفي اول تكلفك فلم تر له طالبا ولا مستحسنا فلعله ان يكون - ما دام ريضا فضيبا - تعنيسا ان يحل عندهم محل المتروك فان عاودت أمثال ذلك مرارا فوجدت الاسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخد في غير هذه الصناعة واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه او زهدهم فيه وقال الشاعر
( ان الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلح بهم عي وإكثار )
وفي المثل المضروب كل مجر في الخلا مسر ولم يقولوا مسرور وكل صواب
فلا تثق في كلامك برأي نفسك فأني ربما رأيت الرجل متماسكا وفوق المتماسك حتى اذا صار الى رأيه في شعره وفي كلامه وفي ابنه رأيته متهافتا وفوق المتهافت
وكان زهير بن أبي سلمى وهو احد الثلاثة المتقدمين يسمي كبار قصائده الحوليات وقال نوح بن جرير قال الحطيئة خير الشعر الحولي المنقح
وقال البعيث الشاعر وكان اخطب الناس اني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشبيا وما أريد ان اخطب يوم الحفل الا بالبائت المحكك
وكنت أظن ان قولهم محكك كلمة مولدة حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني
( أبلغ فزارة ان الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب )
( أدل اطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانا في اليعاسيب )
وتكلم يزيد بن أبان الرقاشي ثم تكلم الحسن واعرابيان حاضران فقال احدهما لصاحبه كيف رأيت الرجلين قال اما الاول فقاص مجيد واما الآخر فعربي محكك ونظر أعرابي الى الحسن فقال له رجل كيف تراه قال أرى خيشوم حر وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة فقال وما انا والرأي الفطير والكلام القضيب ولما فرغوا من البيعة له قال دعوا الرأي يغب فان غبوبه يكشف لكم عن

محضه وقيل لابن التوأم الرقاشي تكلم فقال ما أشتهى الخبز الا بائتا وقال عبيد الله بن سالم لرؤبة مت يا أبا الجحاف اذا شئت قال وكيف ذلك قال رأيت اليوم عقبة بن رؤبة ينشد شعرا له أعجبني فقال رؤبة نعم انه ليقول ولكن ليس لشعره قران وقال الشاعر
( مهاذبة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الاسود )
وقال عمر بن لجاء لبعض الشعراء أنا أشعر منك قال وبم ذاك قال لاني أقول البيت وأخاه وتقول البيت وابن عمه وذكر بعضهم شعر النابغة الجعدي فقال مطرف بالاف وخمار بواف وكان الاصمعي يفضله من أجل ذلك وكان يقول الحطيئة عبد لشعره عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا لمكان الصنعة والتكلف والقيام عليه وقالوا لو كان شعر صالح بن عبد القدوس وسابق البربري كان مفرقا في أشعار كثيرة لصارت تلك الاشعار أرفع مما هي عليه بطبقات ولصار شعرهما نوادر سائرة في الافاق ولكن القصيدة اذا كانت كلها أمثالا لم تسر ولم تجر مجرى النوادر ومتى لم يخرج السامع من شيء الى شيء لم يكن لذلك النظام عنده موقع وقال بعض الشعراء لرجل انا اقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك قال لاني لا اقبل من شيطاني مثل الذي تقبله من شيطانك قالوا وانشد عقبة بن رؤبة اباه رؤبة بن العجاج شعرا وقال له كيف تراه قال له يا بني ان أباك ليعرض له مثل هذا يمينا وشمالا فما يلتفت اليه
وقد رووا ذلك في زهير وابنه كعب
وقيل لعقيل بن علفة لم لا تطيل الهجاء قال يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق وقيل لابي المهوس لم لا تطيل الهجاء قال لم اجد المثل النادر الا بيتا واحدا ولم أجد الشعر السائر الا بيتا واحدا وقال مسلمة بن عبد الملك لنصيب يا أبا الحجناء اما تحسن الهجاء قال أما تراني أحسن مكان عافاك الله لا عافاك الله ولاموا الكميت بن زيد على الاطالة فقال انا على القصار اقدر وقيل للعجاج ما لك لا تحسن الهجاء قال هل في الارض صانع الا وهو على الافساد أقدر وقال رؤبة الهدم أسرع من البناء
وهذه الحجج التي ذكروها عن نصيب والكميت والعجاج ورؤبة إنما

ذكروها على وجه الاحتجاج لهم وهذا منهم جهل ان كانت هذه الاخبار صادقة وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة في الفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء او في التعبير او في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء وان كانت هذه الانواع كلها ترجع الىتأليف اللحون ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا يكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والاسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر ومثل هذا كثير جدا
وكان عبد الحميد الاكبر وابن المقفع مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر الا ما لا يذكر مثله وقيل لابن المقفع في ذلك فقال الذي ارضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه وهذا الفرزدق وكان مشتهرا بالنساء وكان زير غوان وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب مذكور ومع حسده لجرير - وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط - وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا وفي الشعراء من لا يستطيع مجاوزة القصيد الى الرجز ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز الى القصيدة ومنهم من يجمعها كجرير وعمر بن لجاء وأبي النجم وحميد الارقط والعماني وليس الفرزدق في طواله بأشعر منه في قصاره وفي الشعراء من يخطب وفيهم من لا يستطيع الخطابة وكذلك حال الخطباء في قرض الشعر وشاعر نفسه قد تختلف حالاته وقال الفرزدق انا عند الناس أشعر الناس وربما مرت علي ساعة ونزع ضرسي أهون علي من ان أقول بيتا واحدا وقال العجاج لقد قلت أرجوزتي التي أولها
( بكيت والمحتزن البكي ... وإنما يأتي الصبا الصبي )
( أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالانسان دوري )
وأنا بالرمل فانثالت علي قوافيها انثيالا وأني لا أريد اليوم دونها في الايام الكثيرة فما أقدر عليه وقال لي أبو يعقوب الخزيمي خرجت من منزلي أريد الشماسية فابتدأت القول في مرثية لأبي التختاخ فرجعت والله وما امكنني بيت واحد وقال الشاعر
( وقد يقرض الشعر البكيء لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو خطيب )

بسم الله الرحمن الرحيم
باب من القول في القوافي الظاهرة واللفظ الموجز
من ملتقطات كلام النساك
قال بعض الناس من التوقي ترك الافراط في التوقي وقال بعضهم اذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون
وقال الشاعر
( قدر الله وارد ... حين يقضى وروده )
( فأرد ما يكون إن ... لم يكن ما تريده )
وقيل لأعرابي في شكاته كيف تجدك قال أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد وأنا في زمان من جاد لم يجد ومن وجد لم يجد وقال بعض النساك أنا لما لا أرجو أرجى مني لما أرجو وقال بعضهم أعجب من العجب ترك التعجب من العجب وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لعبد بني مخزوم أني أخاف الله فيما تقلدت قال لست أخاف عليك ان تخاف وإنما أخاف عليك أن لا تخاف وقال الاحنف لمعاوية أخافك إن صدقتك وأخاف الله إن كذبتك وقال رجل من النساك لصاحب له وهو يجود بنفسه اما ذنوبي فاني أرجو لها مغفرة الله ولكني اخاف على بناتي الضيعة فقال له صاحبه فالذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارجه لحفظ بناتك وقال رجل من النساك لصاحب له مالي أراك حزينا قال كان عندي يتيم أربيه لأوجر فيه فمات فانقطع عنا أجره إذ بطل قيامنا بمؤونته فقال له صاحبه فاجتلب يتيما اخر يقوم لك مقام الاول قال أخاف ان لا أصيب يتيما في سوء خلقه قال له صاحبه اما انا فلو كنت في موضعك معه لا ذكرت سوء خلقه وقال اخر وسمعه ابو هريرة النحوي وهو يقول ما يمنعني من تعلم القران الا اني أخاف ان أضيعه قال اما انت فقد عجلت له التضييع ولعلك اذا تعلمته لم تضيعه وقال عمر ابن عبد العزيز لرجل من سيد قومك قال انا قال لوكنت كذلك لم تقل

باب آخر
في حسن البيان
وقالوا في حسن البيان وفي التخلص من الخصم بالحق والباطل وفي تخليص الحق من الباطل وفي الاقرار بالحق وفي ترك الفخر بالباطل
قال اعرابي وذكر حماس بن ثامل
( برئت الى الرحمن من كل صاحب ... أصاحبه إلا حماس بن ثامل )
( وظني به بين السماطين أنه ... سينجو بحق او سينجو بباطل )
وقال العجير السلولي
( وإن ابن زيد لا بن عمي وإنه ... لبلال أيدي جلة الشول بالدم )
( طلوع الثنايا بالمطايا وإنه ... غداة المرادى للخطيب المقدم )
( يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... ويكفيك ما حملته حين تغرم )
وقال ابن ربع الهذلي
( أعيني ألا فابكي رقيبة انه ... وصول لأرحام ومعطاء لسائل )
( فأقسم لو أدركته لحميته ... وان كان لم يترك مقالا لقائل )
وقال بعض اليهود وهو الربيع بن أبي الحقيق من بني النضير وبعثه رسول الله الى خيبر فقتلوه
( سائل بنا خابر أكفائنا ... والعلم قد يلفى لدى السائل )
( إنا اذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل )
( واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكم عادل فاصل )
( لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل )
( نكره أن تسفه احلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل )
وقال الاخر وذكر حماسا ايضا
( أتاني حماس بابن ما هي يسوقه ... ليبغيه خيرا وليس بفاعل )
( ليعطي عبسا مالنا وصدورنا ... من الغيظ تغلي مثل غلي المراجل )
( وقافية قيلت لكم لم أجد لها ... جوابا اذا لم تضربوا بالمناصل )
( فأنطق في حق بحق ولم يكن ... ليرحض عنكم قالة الخزي باطلي )
وقال عمرو بن معد يكرب
( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت )

وقال ابو عبيدة صاح رؤبة في بعض الحروب التي كانت بين تميم والازد يا معشر بني تميم أطلقوا من لساني قال أبصر رجلا منهم قد طعن فارسا طعنة فصاح لاعيا ولا شللا والعرب تقول عي أبأس من شلل كأن العي فوق كل زمانه وقالت الجهضمية
( ألا هلك الحلو الحلال الحلاحل ... ومن عنده علم وحلم ونائل )
( وذوخطب يوما اذا القوم افحموا ... تصيب مرادي قوله ما يحاول )
( بصير بعورات الكلام اذا التقى ... شريجان بين القوم حق وباطل )
( أتي لما يأتي الكريم بسيفه ... وان أسلمته جنده والقبائل )
( وليس بمعطاء الظلامة عن يد ... ولا دون أعلى سورة المجد قابل )
وأنشد ابو عبيدة في الخطيب يطول كلامه ويكون ذكورا لأول خطبته وللذي بنى عليه أمره وان شغب شاغب فقطع عليه كلامه او حدث عند ذلك حدث يحتاج فيه الى تدبير اخر وصل الثاني من كلامه بالاول حتى لا يكون أحد كلاميه أجود من الآخر
( فان أحدثوا شغبا يقطع نظمها ... فانك وصال لما قطع الشغب )
( ولو كنت نساجا سدوت خطابها ... بقول كطعم الشهد بالبارد العذب )
وقال نصيب
( وما بذلت ابتذال الثوب ودكم ... وعائد خلقا ما كان يبتذل )
( وعلمك الشيء تهوى ان تبينه ... أشفى بقلبك من أخبار من تسل )
وقال الاخر
( لعمرك ماود اللسان بنافع ... اذا لم يكن أصل المودة في الصدر )
وقال الآخر
( تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل )
( وان كبير القوم لا علم عنده ... صغير اذا التفت عليه المحافل )
وقال الآخر
( فتى مثل صفو الماء ليس بباخل ... عليك ولا مهد ملاما لباخل )
( ولا قائل عوراء تؤذي رفيقه ... ولا رافع رأسا بعوراء قائل )
( ولا مسلم مولى لأمر يصيبه ... ولا خالط حقا مصيبا بباطل )

( ولا رافع أحدوثة السوء معجبا ... بها بين أيدي المجلس المتقابل )
( ترى أهله في نعمة وهو شاحب ... طوي البطن مخماص الضحى والاصائل )
وقالت أخت يزيد بن الطثرية
( أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... قريبا وقد غالت يزيد غوائله )
( فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وبآدله )
( فتى لا يرى خرق القميص بخصره ... ولكنما توهي القميص كواهله )
( اذا نزل الاضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقل مراجله )
( مضى فورثناه دريس مفاضه ... وأبيض هنديا طويلا حمائلة )
( يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله )
( أخو الجد ان جد الرجال وشمروا ... وذو باطل ان شئت ألهاك باطله )

باب شعر وغير ذلك من الكلام مما يدخل في باب الخطب
قال الشاعر
( عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في موقف بخطيب )
وقال الآخر
( ان الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا )
( لا يعجبنك من خطيب قوله ... حتى يكون مع اللسان أصيلا )
وأنشد الاخر
( أبر فما يزداد إلا حماقة ... ونوكا وإن كانت كثيرا مخارجه )
قد يكون رديء العقل جيد اللسان
وكان ابو العباس الاعمى يقول
( اذا وصف الاسلام أحسن وصفه ... بفيه ويأبى قلبه ويهاجره )
( وان قام قال الحق ما دام قائما ... تقي اللسان كافر بعد سائره )
يقول انه يتيه عن قوله ويأباه ويهجره ويقول الحق على منبره بلسانه وسائره كافر
وقال قيس بن عاصم المنقري يذكر ما في بني منقر من الخطابة
( إني امرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنده ولا أفن )
( من منقر في بيت مكرمة ... والأصيل ينبت حوله الغصن )

( خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن )
( لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحسن جوارهم فطن )
من هذا الباب وليس منه في الجملة قول الآخر
( أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم )
( فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المسلم )
وقال نصيب
( يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول )
وقال اخر
( ألا رب خم ذي فنون علوته ... وان كان ألوى يشبه الحق باطله )
فهذا هو معنى قول العتابي البلاغة إظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق وقال الشاعر وهو كما قال
( عجبت لإدلال العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما )
( وفي الصمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء ان يتكلما )
وموضع الصحيفة من هذا البيت موضع ذكر العنوان في شعره الذي رثى به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول
( ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا )
وأنشد أيضا
( ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل )
( وكل في الهوى ليث ... وفيما نابه فسل )
( وليس الشأن في الوصل ... ولكن ان يرى الفضل )
وقال كسرى أنو شروان لبزرجمهر أي الاشياء خير للمرء العيي قال عقل يعيش به قال فان لم يكن له عقل قال فاخوان يسترون عليه قال فان لم يكن له اخوان قال فمال يتحبب به الى الناس قال فان لم يكن له مال قال فعي صامت قال فان لم يكن ذلك قال فموت مريح
وقال موسى بن يحيى بن خالد قال ابو علي رسائل المرء في كتبه أدل على مقدار عقله وأصدق شاهد على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على المشافهة و المواجهة

باب آخر
ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوه كبرود العصب وكالحلل والمعاطف والديباج والوشي وأشباه ذلك
وأنشدني أبو الجماهر جندب بن مدرك الهلالي
( لا يشترى الحمد امنية ... ولا يشترى الحمد بالمقصر )
( ولكنما يشترى غاليا ... فمن يعط قيمته يشتر )
( وممن يعتطف على مئزر ... فنعم الرداء على المئزر )
وأنشدني لابن ميادة
( نعم أنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد يمان يربح البيع تاجره )
وأنشدني
( فان أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمئلينا )
( لذيذات المقاطع محكمات ... لو ان الشعر يلبس لارتدينا )
وقال ابو قردودة يرثي ابن عمار قتيل النعمان ووصف كلامه وقد كان نهاه عن منادمته
( اني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره )
( إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره )
( يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره )
وقال الشاعر في مديح احمد بن ابي دؤاد
( وعويص من الامور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور )
( قد تسهلت ما توعر منه ... بلسان يزينه التحبير )
( مثل وشي البرود هلهله النسج ... وعند الحجاج در نثير )
( حسن الصمت والمقاطع إما ... أنصت القوم والحديث يدور )
( ثم من بعد لحظة تورث اليسر ... وعرض مهذب موفور )
مما يضم الى هذا وليس منه بعينه قول جميل بن معمر
( نمت في الروابي من معد وأفلجت ... على الخفرات الغر وهي وريد )
( أناة على نيرين اضحى لداتها ... بلين بلاء الريط وهي جديد )
ومن هذا الشكل وليس منه بعينه قول الشاعر

( على كل ذي نيرين زيد محاله ... محالا وفي أضلاعه زيد أضلعا )
وقال ابو يعقوب الخزيمي الاعور أول شعر قلته هذان البيتان
( بقلبي سقام لست أحسن وصفه ... على أنه ما كان فهو شديد )
( تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى له الأيام وهو جديد )
وقال آخر وهو ابو الاسود الدؤلي
( أبي القلب إلا ام عمرو وحبها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند )
( كبرد اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد )
وقال ابن هرمة
( إن الأديم الذي أصبحت تعركه ... جهلا لذو نغل باد وذو حلم )
( ولن يبط بأيدي الخالقين ولا ... أيدي الخوالق إلا جيد الأدم )
( وفي غير هذا الباب وهو قريب منه قول ذي الرمة
في قعر حجر من ذؤابة عامر ... إمام هدى مستبصر الحكم عادله )
( كأن على أعطافه ماء مذهب ... اذا سمل السربال طارت رعابله )
وهو الذي يقول
( حوراء في دعج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مستها ذهب )
وقال الاعشى
( بيضاء ضحونها وصفراء ... العشية كالعراره )
وقال اخر
( قد علمت بيضاء صفراء الأصل ... لأغنين اليوم ما أغنى رجل )
وقال بشار بن برد
( وخذي ملابس زينة ... ومصبغات فهي أفخر )
( واذا دخلت تقنعي ... بالحمر ان الحسن أحمر )
وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الامر الى مالا يبلغه تمييز البصير ولبشار خاصة في هذا الباب ما ليس لاحد ولولا انه في كتاب الرجل والمرأة وفي باب القول في الانسان في كتاب الحيوان أليق وأذكى لذكرناه في هذا الموضع ومما ذكروا فيه الوزن قوله
( زني ألقوم حتى تعرفي عند وزنهم ... اذا رفع الميزان كيف أميل )

وقال ابن الزبير الأسدي
( أعاذل غضي بعض لومك إنني ... أرى الموت لا يرضى بدين ولا رهن )
( وإني أرى دهرا تغير صرفه ... ودنيا أراها لا تقوم على وزن )
باب آخر
ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون اصابة المقادير ويذمون الخروج من التبويل قال جعفر بن سليمان ليس يطيب الطعام بكثرة الانفاق وجودة التوابل وانما الشأن في اصابة القدر وقال الشاعر وهو عارق بن أثال الطائي
( ما ان يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين )
( اعطاهم الله أموالا ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا دين )
( ما شئت من بغلة شقراء ناجية ... او من أثاث وقول غير موزون )
وأنشد بعض الشعراء
( رأت رجلا أودى السفار بجسمه ... فلم يبق إلا منطق وحناجن )
( اذا حسرت عنه العمامة راعها ... جميل الخفوق أغفلته الدواهن )
( فإن أك معروق العظام فانني ... اذا ما وزنت القوم بالقوم وازن )
قال مالك بن أسماء في بعض نسائه وكانت تصيب الكلام كثيرا وربما لحنت
( أمغطى مني على بصري للحب ... أم انت أكمل الناس حسنا )
( وحديث ألذة هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا )
( منطق عاقل وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا )
وقال طرفه في المقدار وإصابته
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي )
طلب الغيث على قدر الحاجة لان الفاضل ضار وقال النبي في دعائه اللهم ( اسقنا سقيا نافعا ) لان المطر ربما جاء في غير إبان الزراعات وربما جاء والتمر في الجرن والطعام في البيادر وربما كان في الكثرة مجاوزا لمقدار الحاجة وقال النبي ( اللهم حوالينا ولا علينا ) وقال بعض الشعراء لصاحبه أنا أشعر منك قال ولم قال لاني أقول البيت وأخاه وتقول البيت

وابن عمه وعاب رؤبة شعر ابنه عقبة فقال ليس له قران وجعل البيت أخا البيت اذا أشبه وكان حقه ان يوضع الى جنبه وعلى ذلك التأويل قال الاعشى
( أبا مسمع أقصر فان قصيدة ... متى تأتكم تلحق بها اخواتها )
قال الله عز و جل ( وما نريهم من آية إلا هي اكبر من اختها )
وقال عمرو بن معد يكرب
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
وقالوا فيماهو ابعد معنى وأقل لفظا قال الهذلي
( أعامر لا الوك إلا مهندا ... وجلد أبي عجل وثيق القبائل )
وقالوا ما هو أبعد من هذا قال ابن عسلة الشيباني واسمه عبد المسيح
( وسماع مدجنة تعللنا ... حتى ننام تناوم العجم )
( فصحوت والنمري يحسبها ... عم السماك وخالة النجم )
وقال أبو النجم فيما هو أبعد من هذا ووصف العير والمعيور الموضع الذي يكون فيه الأعيار
( وظل يوفي الأكم ابن خالها ... )
فهذا مما يدل على توسعهم في الكلام وحمل بعضه على بعض واشتقاق بعضه من بعض وقال النبي ( نعمت العمة لكم النخلة ) كأن بينها وبين الانسان تشابه وتشاكل من وجوه وقد ذكرنا ذلك في كتاب الزرع والنخل وفي مثل ذلك قال بعض الفصحاء
( شهدت بأن النمر بالزبد طيب ... وأن الحبارى خالة الكروان )

باب آخر من الشعر
مما قالوا في الخطب واللسن والامتداح به والمديح عليه
قال كعب الاشقري
( إلا أكن في الارض أخطب قائما ... فإني على ظهر الكميت خطيب )
وقال ثابت قطنة
( فإلا أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسمر القنا والسيف جد لعوب )
وقالت ليلى الاخيلية

( حتى اذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما )
وقال الاخر
( عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في مأقط بخطيب )
وقال دريد بن الصمة
( أبلغ نعيما وأوفى ان لقيتهما ... ان لم يكن كان في سمعيهما صمم )
( فلا يزال شهاب يستضاء به ... يهدي المقانب ما لم يهلك الصمم )
( عاري الأشاجع معصوب بلمته ... أمر الزعامة في عرنينه شمم )
وقال أبو العباس الاعمى مولى بني بكر بن عبد مناف في بني عبد شمس
( ليت شعري أفاح رائحة المسك ... ما إن اخال بالخيف أنسي )
( حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس )
( خطباء على المنابر فرسان ... عليها وقالة غير خرس )
( لا يعابون صامتين وان قالوا ... أصابوا ولم يقولوا بلبس )
( بحلوم اذا الحلوم استخفت ... ووجوه مثل الدنانير ملس )
وقال العجاج
( وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس )
وقال امرؤ القيس بن حجر
( ويارب يوم قد أروح مرجلا ... حبيبا الى البيض الكواعب أملسا )
وقال أبو العباس الاعمى
( ولم أر حيا مثل حي نحملوا ... الى الشام مظلومين منذ بريت )
( أعز وأمضى حين تشتجر القنا ... وأعلم بالمسكين حيث يبيت )
( وأرفق بالدنيا بأولى سياسة ... اذا كاد امر المسلمين يفوت )
( اذا مات منهم سيد قام سيد ... بصبر بعورات الكلام زميت )
وقال آخر
( لا يغسل العرض من تدنسه ... والثوب إن مس مدنسا غسلا )
( وزلة الرجل تستقال ولا ... يكاد رأي يقيلك الزللا )
وقال اخر في الزلل
( ألهفي اذا عصيت أبا يزيد ... ولهفي اذ أطعت أبا العلاء )

كانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلة من غير ماء )
وقال آخر
( فانك لم ينذرك أمر تخافه ... اذا كنت فيه جاهلا مثل خابر )
وقال ابن وابصة - واسمه سالم - في مقام قام فيه مع ناس من الخطباء
( يا أيها المتحلي غير شيمته ... ومن سجيته الاكثار والملق )
( أعمد الى القصد فيما انت راكبه ... ان التخلق يأتي دونه الخلق )
( صدت هنيدة لما جئت زائرها ... عني بمطروفة انسانها غرق )
( وراعها الشيب في رأسي فقلت لها ... كذاك يصفر بعد الخضرة الورق )
( بل موقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق )
( فما زللت ولا ألفيت ذا خطل ... اذا الرجال على أمثالها زلقوا )
وأنشد أعرابي من باهلة
( سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما او غنى الحدثان )
( فللموت خير من حياة يرى لها ... على الحر بالإقلال وسم هوان )
( متى يتكلم يلغ حكم كلامه ... وان لم يقل قالوا عديم بيان )
( كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان )
وفي مثلها في بعض الوجوه قول عروة بن الورد
( ذريني للغنى أسعى فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير )
( وأهونهم وأحقرهم لديهم ... وان أمسى له نسب وخير )
( ويقصى في الندي وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير )
( ويلفى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير )
( قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور )
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه الهوى إله معبود وتلا قوله عز و جل ( أفرأيت من اتخد إلهه هواه وأضله الله على علم )
وقال ابو الاعور سعيد بن زيد بن عمرو بن تفيل
( تلك عرساي تنطقان على عمد ... إلى اليوم قول زور وهتر )
( سألتاني الطلاق ان رأنا ما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر )
( فلعلي ان يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري )

( وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من خوادم عشر )
( وتجر الأذيال في نعمة زول ... تقولان ضع عصاك لدهر )
( ويكأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر )
( ويجنب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كل سر )
قال عبيد بن الابرص في نحو هذا وليس كمثله
( تلك عرسي غضبى تريد زيالي ... ألبين تريد أم لدلال )
( ان يكن طلبك الفراق فلا أحفل ... ان تعطفي صدور الجمال )
( كنت بيضاء كالمهاة وإذ ... آتيك نشوان مرخيا أذيالي )
( فاتركي مط حاجبيك وعيشي ... معنا بالرجاء والتأمال )
( زعمت أنني كبرت وأني ... قل مالي وضن عني الموالي )
( وصحا باطلي وأصبحت شيخا ... لا يواتي امثالها امثالي )
( ان تريني تغير الرأس مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذالي )
( بينما أدخل الخباء على مهضومة ... الكشح طفلة كالغزال )
( فتعاطيت جيدها ثم مالت ... ميلان الكثيب بين الرمال )
( ثم قالت فدى لنفسك نفسي ... وفداء لمال أهلك مالي )
وخرج عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من داره يوما وقد جاء عامر ابن عبد قيس فقعد في دهليزه فلما رأى شيخا دميما أشغى ثطا في عباءة فأنكره وانكر مكانه فقال يا اعرابي اين ربك قال بالمرصاد
يقال ان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم يفحمه احد قط غير عامر بن عبد قيس ونظر معاوية الى النخار بن أوس العذري الخطيب الناسب في عباءة في ناحية من مجلسه فأنكره وانكر مكانه زراية منه عليه فقال من هذا فقال النخار يا أمير المؤمنين ان العباءة لا تكلمك انما يكلمك من فيها
قال ونظر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الى هرم بن قطبة ملتفا في بت في ناحية المسجد ورأى دمامته وقلته وعرف تقديم العرب له في الحكم والعلم فأحب ان يكشفه ويسبر ما عنده فقال أرأيت لو تنافرا اليك اليوم أيهما كنت تنفر يعني علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل فقال يا امير المؤمنين لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة فقال عمر بن الخطاب رضي الله

تعالى عنه لهذا العقل تحاكمت اليك العرب ونظر عمر الى الأحنف وعنده الوفد والأحنف ملتف في بت له فترك جميع القوم واستنطقه فلما تبعق منه ما تعبق وتكلم بذلك الكلام البليغ المصيب وذهب ذلك المذهب لم يزل عنده في علياء ثم صار الى ان عقد له الرياسة ثابتا له ذلك الى ان فارق الدنيا
ونظر النعمان بن المنذر الى ضمرة بن ضمرة فلما رأى دمامته وقلته قال تسمع بالمعيدي لا ان تراه هكذا تقول العرب فقال ضمرة أبيت اللعن ان الرجال لا تكال بالقفزان وانما المرء بأصغريه لا لسانه وقلبه وكان ضمرة خطيبا وكان فارسا شاعرا شريفا سيدا
وكان لرمق بن زيد مدح أبا جبيلة الغساني وكان الرمق دميما قصيرا فلما أنشده وحاوره قال عسل طيب في ظرف سوء
قال وتكلم علباء بن الهيثم السدوسي لدى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكان علباء اعور دميما فلما رأى براعته وسمع بيانه أقبل عمر يصعد فيه بصره ويحدره فلما خرج قال عمر لكل أناس في جميلهم خبرة
قال ابو عثمان وأنشدت سهل بن هرون قول سلمة بن خرشب وشعره الذي أرسل به الى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس وذبيان فقال سهل بن هرون والله لكأنه قد سمع رسالة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم والقصيدة قوله
( أبلغ سبيعا وأنت سيدنا ... قدما وأوفى رجالنا ذمما )
( أن بغيضا وأن إخوتها ... ذبيان قد ضرموا الذي اضطرما )
( نبئت أن حكموك بينهم ... فلا يقولن بئس ما حكما )
( ان كنت ذا خبرة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما )
( وتنزل الأمر في منازله ... حكما وعلما وتحضر الفهما )
( ولا تبالي من المحق ولا المبطل ... لا إلة ولا ذمما )
( فاحكم وأنت الحكيم بينهم ... لن تعدموا الحكم ثابتا صتما )
( واصدع أديم السواء بينهم ... على رضى من رضي ومن رغما )

( ان كان مالا ففض عدته ... مالا بمال وان دما فدما )
( حتى ترى ظاهر الحكومة مثل ... الصبح جلى نهاره ظلما )
( هذا وان لم تطق حكومتهم ... فانبذ اليهم أمورهم سلما )
وقال العايشي كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أعلم الناس بالشعر ولكنه اذ ابتلى بالحكم بين النجاشي والعجلاني وبين الحطيئة والزبرقان كره أن يتعرض للشعراء واستشهد رجالا للفريقين مثل حسان بن ثابت وغيره ممن تهون عليه سبالهم فاذا سمع كلامهم حكم بما يعلم وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا للفريقين ويكون هو قد تخلص بعرضه سليما فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا ظن ان ذلك لجهله بما يعرف غيره ولقد أنشدوه شعرا لزهير وكان لشعره مقدما فلما انتهوا الى قوله
( وان الحق مقطعه ثلاث ... يمين او نفار او جلاء )
قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها واقامته أقسامها
( وان الحق مقطعه ثلاث ... يمين او نفار او جلاء )
وأنشدوه قصيدة عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللام فلما بلغ المنشد الى قوله
( والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح واشفاق وتأميل )
قال عمر متعجبا
( والعيش شح وأشفاق وتأميل )
يعجبهم من حسن ما قسم وفصل وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الاسلت التي على العين وهو ساكت فلما انتهى المنشد الى قوله
( الكيس والقوة خير من الاشفاق ... والفهة والهاع )
أعاد عمر البيت وقال
( الكيس والقوة خير ال ... إشفاق والفهة والهاع )
وجعل عمر يردد البيت ويتعجب منه قال محمد بن سلام الجمحي عن بعض أشياخه قال كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا يكاد يعرض له أمر الا أنشد فيه بيت شعر
وقال عمر بن العلاء كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب بفرط

حاجتهم الى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا الى السوقة وتسرعوا الى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر ولذلك قال الاول الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة الدني
قال ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني ولو كان في الدهر الاول ما زاده ذلك الا رفعة
وروى مجالد عن الشعبي قال ما رأيت مثلي ما أشاء أن ألقى رجلا أعلم مني بشيء الا لقيته وقال الحسن البصري يكون الرجل عابدا ولا يكون عاقلا ويكون عابدا عاقلا ولا يكون عالما وكان مسلم بن يسار عاقلا عابدا عالما وكان يقال فقه الحسن وورع ابن سيرين وعقل مطرف وحفظ قتادة وذكرت البصرة فقيل شيخها الحسن وفتاها بكر بن عبد الله المزني والذين بثوا العلم في الدنيا اربعة قتادة والزهري والاعمش والكلبي وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري فغلب قتادة الزهري فقيل لسليمان في ذلك فقال انه فقيه مليح فقال القحذمي لا ولكنه تعصب للقرشية ولانقطاعه اليهم ولروايته فضائلهم وكان الاصمعي يقول وصلت بالعلم ونلت بالملح وكان سهل بن هرون يقول اللسان البليغ والشعر الجيد لا يكاد ان يجتمعان في واحد وأعسر من ذلك ان يجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم والمسجديون يقولون من تمنى رجلا حسن العقل وحسن اللسان وحسن القلم تمنى شيئا عسيرا

باب إعابة العي والحمق
وكانوا يعيبون النوك والعي والحمق وأخلاق النساء والصبيان
قال الشاعر
( اذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تثقن بكل أخي إخاء )
( فان خيرت بينهم فألصق ... بأهل العقل منهم والحياء )
( فان العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء )

( فان النوك للأحساب غول ... وأهون دائه داء العياء )
( ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه سعي العناء )
( فلا تثقن بالنوكى لشيء ... ولو كانوا بني ماء السماء )
( فليسوا قابلي أدب فدعهم ... وكن من ذاك منقطع الرجاء )
وقال الآخر في التضييع والنوك
( فعش في حد أنوك ساعدته ... مقادير يخالفها الصواب )
( ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب )
وأنشد في ذلك
( أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كل عاقل )
( مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل )
وقال الاخر
( ولم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للرذل )
( ولم أر عزا لامرىء كعشيرة ... ولم أر ذلا مثل نأي عن الأهل )
( ولم أر من عدم أضر على امرىء ... اذا عاش وسط الناس من عدم العقل )
وقال الآخر
( تحامق مع الحمقى اذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل ان كنت ذا عقل )
( فاني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل )
وقال الآخر
( وأنزلني طول النوى دار غربة ... اذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله )
( فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله )
وقال بشر بن المعتمر وأنشد
( واذا الغبي رأيته مستغنيا ... أعيا الطبيب وحيلة المحتال )
وأنشدني آخر
( وللدهر ايام فكن في لباسه ... كلبسته يوما أجد وأخلقا )
( وكن اكيس الكيسى اذا كنت فيهم ... وان كنت في الحمقى فكن انت أحمقا )
وأنشدني آخر
( ولا تقربي يا بنت عمي بوهة ... من القوم دفناسا غبيا مفندا )

( وان كان اعطى رأس ستين بكرة ... وحكما على حكم وعبدا مولدا )
( ألا فاحذري لاتوردنك هجمة ... طوال الذرى جبسا من القوم قعددا )
وأنشدني آخر
( كسا الله حيي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم أظفارا بطيئا نصولها )
( اذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وفدهم يستقيلها )
وأنشدني اخر
( وإن عناء ان تفهم جاهلا ... ويحسب جهلا انه منك افهم )
وقال جرير
( ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الامر الا تدبرا )
وقال الاعرج المعني الطائي
( لقد علم الاقوام أن قد قدرتم ... ولم تبدأ وهم بالمظالم أولا )
( فكونوا كداعى كرة بعد فرة ... ألا رب من قد فر ئمت أقبلا )
( فان أنتم لم تفعلوا فتبدلوا ... بكل سنان معشر العرب مغزلا )
( وأعطوهم حكم الصبي بأهله ... واني لأرجو ان يقولوا بأن لا )
وأنشد
( ولا تحكما حكم الصبي فانه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله )
سئل دغفل عن بني عامر فقال اعناق ظباء وأعجاز نساء قيل فما تقول في أهل اليمن قال سيد وأنوك

باب في ذكر المعلمين
من امثال العامة أحمق من معلم كتاب وقد ذكرهم صقلاب فقال
( وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح على انثى ويغدو على طفل )
وفي قول بعض الحكماء لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء وقال لا تدع أم صبيك تضربه فانه أعقل منها وان كانت أسن منه وقد سمعنا في الامثال أحمق من راعي ضان ثمانين
فاما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابا وقد رعى الغنم عدة من جلة الانبياء عليهم السلام ولعمري ان الفدادين من أهل الوبر ورعاة الإبل ليتلومون على رعاة الغنم ويقول احدهم لصاحبه ان كنت

كاذبا فحلبت قاعدا
وقال الآخر
( ترى حالب المعزى اذا سر قاعدا ... وحالبهن القائم المتطاول )
قالت امرأة من غامد في هزيمة ربيعة بن مكدم لجمع غامد وحده
( ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد )
( تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد )
( فليت لنا بارتباط الخيول ... ضأنا لها حالب قاعد )
وقد سمعنا قول بعضهم الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين قال والحاكة أقل وأسقط من ان يقال لهم حمقى وكذلك الغزالون لان الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش والحائك ليس عنده صواب جيد في فعال ولا مقال الا ان يجعل جودة الحياكة من هذا الباب وليس هو من هذا في شيء

باب آخر في الحمق
ويقال فلان أحمق فاذا قالوا مائق فليس يريدون ذلك المعنى بعينه وكذلك اذا قالوا أنوك وكذلك اذا قالوا رقيع ويقولون فلان سليم الصدر ثم يقولون غبي ثم يقولون أبله وكذلك اذا قالوا معتوه ومسلوس وأشباه ذلك
قال ابو عبيدة يقال للفارس شجاع فاذا تقدم ذلك قيل بطل فاذا تقدم شيئا قيل بهمة فاذا صار الى الغاية قيل اليس
قال العجاج أليس عن حوبائه سخي
وهذا المأخذ يجري في الصفات كلها من جود وبخل وصلاح وفساد ونقصان ورجحان وما زلت اسمع هذا القول في المعلمين والمعلمون عندي على ضربين منهم رجال ارتفعوا عن تعليم اولاد العامة الى تعليم اولاد الخاصة ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة الى تعليم اولاد الملوك انفسهم المرشحين للخلافة فكيف تستطيع ان تزعم ان مثل علي بن حمزة الكسائي ومحمد بن المستنير الذي يقال له قطرب واشباه هؤلاء يقال لهم حمقى ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم فان ذهبوا الى معلمي كتاتيب

القرى فان لكل قوم حاشية وسفلة فما هم في ذلك الا كغيرهم
وكيف تقول مثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشعراء والخطباء مثل الكميت بن زيد وعبد الحميد الكاتب وقيس بن سعد وعطاء بن أبي رباح
ومثل عبد الكريم بن ابي أمية وحسين المعلم وابي سعيد المعلم
ومن المعلمين الضحاك بن مزاحم ابو معبد الجهني وعامر الشعبي فكانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان وكان ابو معبد يعلم سعيدا
ومنهم ابو سعيد المؤدب - وهو غير ابي سعيد المعلم - وكان يحدث عن هشام ابن عروة وغيرهم
ومنهم عبد الصمد بن عبد الاعلى وكان معلم ولد عتبة بن ابي سفيان
وكان اسماعيل بن علي ألزم بعض بنيه عبد الله بن المقفع ليعلمه
وكان ابو بكر عبد الله بن كيسان معلما
ومنهم محمد بن السكن وما كان عندنا بالبصرة رجلان ادرى بصنوف العلم ولا احسن بيانا من ابي الوزير وابي عدنان المعلمين وحالهما من اول ما اذكر من ايام الصبا
وقد قال الناس في ابي البيداء وفي ابي عبد الله الكاتب وفي الحجاج بن يوسف وابيه ما قالوا
وقد أنشدوا مع هذا الخبر شاهدا من الشعر على ان الحجاج وأباه كانا معلمين بالطائف
ثم رجع بنا القول الى الكلام الاول قالوا احق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل وكتب الحجاج الىالمهلب يعجله في حرب الازارقة ويسمعه فكتب اليه المهلب ان البلاء كل البلاء اي يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره

باب في التشادق والاغراق في القول
قال بعض الربانيين من الادباء واهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمق ويبغض الاغراق في القول والتكلف والاجتلاب ويعرف اكثر ادواء الكلام ودوائه وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول وما يعرض

للسامع من الافتتان بما يسمع والذي يورث الاقتدار من التحكم والتسلط والذي يمكن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني والخلابة وحسن المنطق وقال في بعض مواعظه أنذركم حسن الالفاظ وحلاوة مخارج الكلام فان المعنى اذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغ مخرجا سهلا ومنحه المتكلم قولا متعشقا صار في قلبك احلى ولصدرك أملا والمعاني اذا كسيت الالفاظ الكريمة وألبست الاوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها وأربت على حقائق اقدارها بقدر ما زينت وعلى حسب ما زخرفت فقد صارت الالفاظ في معنى المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيف وسلطان الهوى قوي ومدخل خدع الشيطان خفي
فاذكر هذا الباب ولا تنسه وتأمله ولا تفرط فيه فان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لم يقل للاحنف بعد ان احتبسه حولا مجرما ليستكثر منه وليبالغ في تصفح حاله والتنقير عن شأنه ان رسول الله قد كان خوفنا كل منافق عليم وقد خفت ان تكون منهم إلا لما كان راعه من حسن منطقه ومال اليه لما رأى من رفقه وقلة تكلفه ولذلك قال رسول الله ( ان من البيان لسحرا )
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتي لها بكلام وجيز ومنطق حسن هذا والله السحر الحلال وقال رسول الله ( لا خلابة ) فالقصد من ذلك ان تجتنب السوقي والوحشي ولا تجعل همك في تهذيب الالفاظ وشغلك في التخلص الى غرائب المعاني وفي الاقتصار بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة والخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه وقد قال الشاعر
( عليك بأوساط الامور فانها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا )
وقال الآخر
( لا تذهبن في الامور فرطا ... لا تسألن ان سألت شططا )
( وكن من الناس جميعا وسطا ... )
وليكن كلامك بين المقصر والغالي فانك تسلم من الهجنة عند العلماء ومن فتنة الشيطان وقال أعرابي للحسن علمني دينا وسطا لا ذاهبا شطوطا

ولا هابطا هبوطا فقال الحسن لئن قلت ذاك ان خير الامور أوسطها وجاء في الحديث خالطوا الناس وزايلوهم وقال عبد الله بن مسعود في خطبته وخير الامور أوساطها وما قل وكفى خير مما كثر وألهى نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها وقال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه كن في الدنيا وسطا وامش جانبا وكانوا يقولون إكره الغلو كما تكره التقصير وكان رسول الله يقول لأصحابه ( قولوا بقولكم ولا يستحوذن عليكم الشيطان ) وكان يقول و ( هل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم الا حصائد ألسنتهم )

باب من الخطب القصار
من خطب السلف ومواعظ النساك وتأديب من تأديب العلماء
قال رجل لأبي هريرة النحوي أريد ان أتعلم العلم وأخاف ان أضيعه قال كفى بترك العلم إضاعة وسمع الآحنف رجلا يقول التعلم في الصغر كالنقش في الحجر فقال الاحنف الكبير اكبر الناس عقلا ولكنه أشغل قلبا وقال أبو الدرداء مالي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون
وقال رسول الله ( ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )
ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه حين دلى زيد بن ثابت في القبر من سره ان يرى كيف ذهاب العلم فلينظر فهكذا ذهابه
وقال بعض الشعراء لبعض العلماء
( أبعدت من يومك الفرار فما ... جاورت حيث انتهى بك القدر )
( لوكان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر )
( يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر )
( فهكذا يفسد الزمان ويفنى ... نى العلم منه ويدرس الأثر )
وقال قتادة لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام اذ قال للعبد الصالح ( هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا ) وقال ابو العباس التميمي قال طاؤس الكلمة الصالحة صدقة

وعن عبد الله بن ثمامة بن انس عن أبيه عن النبي انه قال ( فضل لسانك تعبر به عن أخيك الذي لا لسان له صدقة ) ح
وقال الخليل تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ وقال الفضيل نعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها الى أخيه وكان يقال اجعل ما في الكتب بيت مال وما في قلبك للنفقة وكان يقال يكتب الرجل أحسن ما سمع ويحفظ أحسن ما كتب وقال أعرابي حرف في قلبك خير من عشرة في طومارك وقال عمر بن عبد العزيز ما قرن شيء بشيء أفضل من علم الى حلم ومن عفو الى قدرة وكان ميمون بن سياه إذا جلس الى قوم قال إنا قوم منقطع بنا فحدثونا احاديث نتجمل بها وفخر سليم مولى زياد بزياد عند معاوية فقال معاوية أسكت فوالله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه الا وقد أدركت اكثر منه بلساني وضرب الحجاج أعناق أسرى فلما قدموا اليه رجلا ليضرب عنقه قال والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا وأمسك عن القتل
وقال بشير الرحال اني لأجد في قلبي حرا لا يذهبه الا برد العدل او حر السنان وقدموا رجلا من الخوارج الى عبد الملك لتضرب عنقه - ودخل على عبدالملك ابن صغير له قد ضربه المعلم وهو يبكي فهم عبد الملك بالمعلم فقال دعه يبكي فانه أفتح لجرمه وأصح لبصره وأذهب لصوته فقال له عبد الملك أما يشغلك ما انت فيه عن هذا قال ما ينبغي للمسلم ان يشغله عن قول الحق شيء فأمر بتخلية سبيله وقال إبراهيم بن أدهم أعربنا في كلامنا فما نلحن حرفا ولحنا في اعمالنا فما نعرب حرفا وأنشد
( نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا مانرقع )
وقال زياد على المنبر ان الرجل ليتكلم بالكلمة ما يقطع بها ذنب عنز مصور لو بلغت إمامه سفك بها دمه وعزل عمر زياد عن كتابه أبي موسى في بعض قدماته فقال له زياد أعن عجز أم عن خيانة قال لا عن واحدة منهما ولكن أكره ان احمل على العامة فضل عقلك وبلغ الحجاج موت اسماء ابن خارجة فقال هل سمعتم بالذي عاش ما شاء ومات حين شاء

وكان يقال كدر الجماعة خير من صفو الفرقة قال ابو الحسن مر عمر بن ذر بعبد الله بن عياش المنتوف وقد كان سفه عليه ثم أعرض عنه فتعلق بثوبه فقال يا هناه انا لم نجد لك اذا عصيت الله فينا خيرا من ان نطيع الله فيك
وهذا كلام أخذه عمر بن ذر عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين قال عمر اني والله لا ادع حقا لله لشكاية تظهر ولا لغضب يحتمل ولا لمحاباة بشر وانك والله ما عاقبت من عصي الله فيك بمثل ان تطيع الله فيه وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الى سعد بن أبي وقاص يا سعد بني وهيب ان الله اذا احب عبدا حببه الى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم ان مالك عند الله مثل الذي لله عندك
ومات لعمر بن ذر ابن فقال اي بني شغلني الحزن لك عن الحزن عليك وقال رجل من مجاشع كان الحسن يخطب في دم فينا فأجابه رجل فقال وقد تركت ذلك لله ولوجوهكم فقال الحسن لا تقل هكذا بل قل لله ثم لوجوهكم وآجرك الله
ومر رجل بأبي بكر رضي الله تعالى عنه ومعه ثوب فقال أتبيع الثوب فقال لا عافاك الله فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لقد علمتم لو كنتم تعلمون قل لا وعافاك الله
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا عن شيء فقال الله أعلم فقال عمر لقد شقينا ان كنا لا نعلم ان الله أعلم اذا سئل احدكم عن شيء لا يعلمه فليقل لا علم لي وكان ابو الدرداء يقول أبغض الناس إلي إن أظلمه من لا يستعين علي بأحد الا بالله
وذكر ابن ذر الدنيا فقال كأنكم انما زادكم في حرصكم عليها ذم الله عز و جل لها ونظر أعرابي الى مال له كثير من الماشية وغيرها فقال ينعه ولكل ينعه استحشاف فباع ما هنالك من ماله ثم لزم ثغرا من ثغور المسلمين حتى مات فيه وتمنى قوم عند يزيد الرقاشي فقال أتمنى كما تمنيتم قالوا تمنه قال ليتنا لم نخلق وليتنا اذ خلقنا لم نعص وليتنا اذ عصينا لم نمت وليتنا اذ بعثنا لم نحاسب وليتنا اذ حوسبنا لم نعذب وليتنا اذ عذبنا لم نخلد
وقال الحجاج ليت الله اذ خلقنا للآخرة كفانا امر الدنيا فرفع عنا الهم

بالمأكل والمشرب والملبس والمنكح أوليته اذ وقعنا في هذه الدار كفانا أمر الآخرة فرفع عنا الاهتمام بما ينجي من عذابه فبلغ كلامهما عبد الله بن حسن بن حسن او علي بن الحسين فقال ما علما شيئا في التمني ما اختار الله فهو خير قال ابو الدرداء من هو ان الدنيا على الله انه لا يعصى الا فيها ولا ينال ما عنده الا بتركها قال شريح الحدة كناية عن الجهل وقال أبو عبيدة العارضة كناية عن البذاء
واذا قالوا فلان مقتصد فتلك كناية عن البخل واذا قالوا للعامل مستقص فهو كناية عن الجور وقال حبيب بن أوس الشاعر ابو تمام الطائي
( كذبتم ليس يزهى من له حسب ... ومن له نسب عمن له أدب )
( اني لذو عجب منكم أردده ... فيكم وفي عجبي من زهوركم عجب )
( لجاجة بي فيكم ليس يشبهها ... الا لجاجتكم في أنكم عرب )
وقيل لاعرابية مات ابنها ما احسن عزاءك عن ابنك قالت ان مصيبته آمنتني من المصائب بعده وقال سعيد بن عثمان بن عفان لطوبس المغني أينا أسن انا أو انت يا طويس فقال بأبي انت وأمي لقد شهدت زفاف امك المباركة الى ابيك الطيب فانظر الى حذقه والى معرفته بمخارج الكلام كيف لم يقل بزفاف امك الطيبة الى ابيك المبارك وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى
وقال رجل من اهل الشام كنت في حلقة أبي مسهر في مسجد دمشق فذكرنا الكلام وبراعته والصمت ونبالته قال كلا ان النجم ليس كالقمر انك تصف الصمت بالكلام ولا تصف الكلام بالصمت وقال الهيثم بن صالح لابنه وكان خطيبا يا بني اذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب واذا اكثرت من الكلام أقللت من الصواب قال يا أبت فان انا اكثرت واكثرت يعني كلاما وصوابا قال يا بني ما رأيت موعوظا أحق بأن يكون واعظا منك
وقال ابن عباس لولا الوسواس ما باليت ان لا أكلم الناس
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما تستبقوا من الدنيا تجدوه في الآخرة وقال رجل للحسن إني اكره الموت قال ذلك انك اخرت مالك

ولو قدمته لسرك ان تلحق به وقال عامر بن الظرب العدواني الرأي نائم والهوى يقظان فمن هنا يغلب الهوى الرأي وقال مكتوب في الحكمة أشكر لمن انعم عليك وانعم على من شكر لك وقال ابو الدرداء ايها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا ان تقبلوا احسن ما تسمعون منا
وقال عبد الملك على المنبر ألا تنصفوننا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة ابي بكر وعمر ولم تسيروا في انفسكم ولا فينا سيرة رعية ابي بكر وعمر نسأل الله ان يعين كلا على كل وقال رجل من العرب اربع لا يشبعن من اربع انثى من ذكر وعين من نظر وارض من مطر وأذن من خبر
وقال موسى عليه السلام لأهله ( امكثوا اني انست نارا لعلي اتيكم منها بخبر ) فقال بعض المعترضين فقد قال او اتيكم بشهاب قبس قال ابو عقيل لم يعرف موقع النار من ابناء السبيل ومن الجائع المقرور
وقال لبيد بن ربيعة
( ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل )
( لو يقوم الفيل او فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل )
( ولدى النعمان مني موطن ... بين فاثور أفاق فالدحل )
( اذ دعتني عامر انصرها ... فالتقى الألسن كالنبل الدول )
( فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقثعل )
( وانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضي ويجل )
( وقبيل من لكيز شاهد ... رهط مرجوم ورهط ابن المعل )
وقال
( وأبيض يجتاب الخروق على الوجى ... خطيبا اذا التف المجامع فاصلا )
وقال لبيد
( لوكان حي في الحياة مخلدا ... في الدهر أدركه أبو يكسوم )
( بكتائب خرس تعود كبشها ... نطح الكباش شبيهة بنجوم )
( ولقد بلوتك وابتليت خليقتي ... ولقد كفاك معلمي تعليمي )
وقد قال أيضا لبيد
( ذهب الذين يعاش في اكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الاجرب )

( يتأكلون مغالة وخيانة ... ويعاب قائلهم وان لم يشغب )
وقال زيد بن جندب في ذكر الشغب
( ما كان اغنى رجالا ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الشغب )
وقال آخر في الشغب
( اني اذا عاقبت ذو عقاب ... وان تشاغبني فذو شغاب )
وقال احمر بن العمرد
( وكم حلها من تيحان سميذع ... مصافي الندى ساق بسهماء مطعم )
( طوى البطن متلاف اذا هبت الصبا ... على الأمر غواص وفي الحي شيظم )
وقال
( هل لامني قوم لموقف سائل ... او في مخاصمة اللجوج الاصيد )
وقال في التطبيق
( فلما ان بدا القعقاع لجت ... على شرك تناقله نقالا )
( تعاورن الحديث وطبقته ... كما طبقت بالنعل المثالا )
وقال آخر
( لوكنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبر الامر )
وقال المعترض على أصحاب الخطابة والبلاغة
قال لقمان لابنه يا بني اني قد ندمت على الكلام ولم أندم على السكوت وقال الشاعر
( ما ان ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا )
وقال آخر
( خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام )
( مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام )
( إنما المسلم من ... ألجم فاه بلجام )
وقال آخر في التحذير والاحتراس
( اخفض الصوت ان نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام )
وقال في مثل ذلك

( لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم مني سيكفيني )
وقال حمزة بن بيض
( لم يكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني جنتني )
( بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني )
لان هذه الكلبة - وهي براقش - انما نبحت غزيا وقد مروا من ورائهم وقد رجعوا خائبين مخفقين فلما نبحتهم استدلوا بنباحها على أهلها فاستباحوهم ولو سكتت كانوا قد سلموا فضرب ابن بيض بها المثل
وقال الاخطل
( تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري )
( ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية النهر )
وقالوا الصمت حكم وقليل فاعله وقالوا استكثر من الهيبة صامت وقيل لرجل من كلب طويل الصمت بحق ما سمتكم العلماء خرس العرب فقال أسكت فاسلم وأسمع فاعلم وكانوا يقولون لا تعدلوا بالسلامة شيئا ولا تسمع الناس يقولون جلد فلان حين صمت ولا قتل حين سكت وتسمعهم يقولون جلد فلان حين قال كذا وكذا وقتل حين قال كذا وكذا وفي الحديث المأثور رحم الله من سكت فسلم او قال خيرا فغنم والسلامة فوق الغنيمة لان السلامة أصل والغنيمة فرع
وقال النبي ( ان الله يبغض البليغ الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها ) ح
وقيل ان كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وقال صاحب البلاغة والخطابة وأهل البيان وحب التبيين انما عاب النبي المتشادقين والثرثارين والذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها والاعرابي المتشادق وهو الذي يصنع بفكيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر فمن تكلف ذلك منهم فهو أعيب والذم له ألزم وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة ولم يكن الناس جميعا يتمثلون بها الا لما فيها من المرفق والانتفاع ومدار العلم على الشاهد والمثل
وانما حثوا على الصمت لان العامة الى معرفة خطأ القول أسرع منهم الى

معرفة خطأ الصمت ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله والا فالسكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل
ولعمري ان الناس الى الكلام لأسرع لان في اصل التركيب ان الحاجة الى القول والعمل اكثر من الحاجة الى ترك العمل والسكوت عن جميع القول وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله بل قد علمنا ان عامة الكلام أفضل من عامة السكوت وقد قال الله عز و جل ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) فجعل سمعه وكذبه سواء
وقال الشاعر
( بني عدي ألا ينهى سفيهكم ... إن السفيه اذا لم ينه مأمور )
وقال الآخر
( فان أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلج ويستشري )
وكيف يكون الصمت أنفع والايثار له أفضل ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه ونفع الكلام يعم ويخص والرواة لم يرووا سكوت الصامتين كما روت كلام الناطقين وبالكلام أرسل الله انبياءه لا بالصمت ومواضع الصمت المحمودة قليلة ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطول الصمت يفسد البيان وقال بكر بن عبد الله المزني طول الصمت حبسه كما قال عمر ترك الحركة عقله واذا ترك الانسان القول ماتت خواطره وتبلدت نفسه وفسد حسه وكانوا يروون صبيانهم الارجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الاعراب لان ذلك يفتق اللهات ويفتح الجرم واللسان اذا اكثرت تحريكه رق ولان واذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلظ وقال عبابة الجعفي لولا الدربة وسوء العادة لأمرت فتياننا ان يماري بعضهم بعضا وأية جارحة منعتها الحركة ولم تمرنها على الاعمال أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع
فلم قال رسول الله للنابغة الجعدي ( لا يفضض الله فاك ) ولم قال لكعب بن مالك ( ما نسي الله لك مقالك ذلك ) ولم قال لهيذان بن شيخ ( رب خطيب من عبس ) ولم قال لحسان لما هيج الغطاريف على بني عبد مناف ( والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام ) ح

وما نشك انه عليه وعلى آله السلام قد نهى عن المراء وعن التزيد والتكلف وعن كل ما ضارع الرياء او السمعة والنفج والبذخ وعن التهاتر والتشاغب وعن المغالبة والمماتنة فاما نفس البيان فكيف ينهي عنه وأبين الكلام كلام الله وهو الذي مدح التبيين وأهل التفصيل وفي هذا كفاية ان شاء الله
قال دغفل بن حنظلة ان للعلم أربعا آفة ونكدا واضاعة واستجاعة فآفته النسيان ونكده الكذب واضاعته وضعه في غير موضعه واستجاعته انك لا تشبع منه وانما عاب الاستجاعة لسوء تدبير اكثر العلماء ولخرق سياسة اكثر الرواة لان الرواة اذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبر ما قد دونوه كان ذلك الازدياد داعيا الى النقصان وذلك الربح سببا للخسران
وقد جاء في الحديث منهومان لا يشبعان منهوم في العلم ومنهوم في المال
وقالوا علم علمك وتعلم علم غيرك فاذا انت قد علمت ما جهلت وحفظت ما علمت وقال الخليل بن احمد اجعل تعليمك دراسة لعلمك واجعل مناظرة المتعلم تنبيها لك على ما ليس عندك وقال بعضهم وأظنه بكر بن عبد الله المزني لا تكدوا هذه القلوب ولا تهملوها فخير الكلام ما كان عقب الجمام ومن أكره بصره عشي وعاودوا الفكر عند نبوات القلوب واشحذوها بالمذاكرة ولا تيأسوا من إصابة الحكمة اذا امتحنتم ببعض الاستغلاق فان من أدام قرع الباب ولج
وقال الشاعر
( اذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد )
وقال الاحنف السؤدد مع السواد وتقول الحكماء من لم ينطق بالحكمة قبل الاربعين لم يبلغ فيها
وأنشد
( ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل )
( وود الفتى في كل نيل ينيله ... اذا ما انقضى لو ان نائله جزل )

وقال الهذلي
( وان سيادة الاقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل )
( أترجو ان تسود ولن تعنى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل )
صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض الا ما كان من الحجاج وإياس ابن معاوية فان عقولهما كانت ترجح على عقول الناس أبو الحسن قال سمعت ابا الصغرى الحارثي يقول كان الحجاج أحمق بنى مدينة واسط في بادية النبط ثم قال لهم لا تدخلوها فلما مات دلفوا اليها من قريب سمعت قحطبة الجشمي يقول كان اهل البصرة لا يشكون انه لم يكن بالبصرة رجل أعقل من عبيد الله بن الحسن وعبيد الله بن سالم وقال معاوية لعمرو بن العاص ان أهل العراق قد قرنوا بك رجلا طويل اللسان قصير الرأي فأجد الحز وطبق المفصل واياك ان تلقاه برأيك كله

باب ما قالوا فيه من الحديث الحسن الموجز المحذوف القليل الفضول
قال الشاعر
( لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر )
وقال ابن احمر
( تضع الحديث علىمواضعه ... وكلامها من بعده نزر )
وقال الآخر
( حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وأعجازه الخطبان دون المحارم )
وقال بشار
( أنس غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام )
( يحسبن من أنس الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الاسلام )
وقال بشار
( فنعمنا والعين حي كميت ... بحديث كنشوة الخندريس )
وقال بشار
( وكأن رفض حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا )
( وتخال ما جمعت عليه ... ثيابها ذهبا وعطرا )
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5
 .........................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق